هشام النواجحة .. مائدة رمضان مغمسة بدموع الفقد في غيابه الأول
غزة – المواطن
“في أول جمعة من شهر الخير دونك، لن أتقبل فكرة فراقك يا حبة العين وشق الروح، لا أستطيع أن أقول اسمك أو قصة عنك دون أن أجهش بالبكاء يا أبا ركان، لم أستطع مرة أن أتحدث عنك حديثا منزوع الدمع، وربما أبكي قبل أن أبدأ” عن مائدةٍ يتيمة غاب عنها زوجها الصحفي هشام النواجحة تمتلئ كلمات سهام وهبة رحيله وغيابه “الأول” عن رمضان.
في بيتٍ تجرع مرارة الفقد والحزن مبكرًا منذ بداية “حرب الإبادة” الجماعية، وعلى مائدة بقي مقعده فيها فارغًا، تمضي أيام شهر رمضان ثقيلة على قلب زوجته “سهام”، فلم يتبقَ لها سوى صور وذكريات لأيام جميلة جمعتها بهشام، كان حضوره “زينة البيت”، يستقبل الشهر الفضيل ببهجة وفرح ويتكلل المشهد بإضاءة أحبال الزينة التي انطفأت في غيابه.
صباح السابع من أكتوبر/ تشرين أول 2023، استيقظت سهام كحال أهالي قطاع غزة ببدء معركة “طوفان الأقصى” واتسعت صدمتها، وهي ترى زوجها يفتح أدراج خزانته وينتقي بعض الملابس مدركًا صعوبة الأوضاع ومستعدا لأي “غياب طويل”، ما رسم علامات الاستفهام أمامها فوقفت تحاول ثنيه “ايش بتعمل. لأيش الأواعي!؟”، أمام انقباضة قلبها من خروجه للمبيت خارج البيت، حاول طمأنتها “لا يحدث إلا ما كتبه الله لنا، كلها أيام وراجع”.
بين ساعة وأخرى، كانت مخاوفها تتزايد مع كل مربعات سكنية تستهدف في مدينة غزة، أو أبراج تقصف، ولا تهدأ إلى بصوت هشام يخبرها فيه “أنا بخير”، ومع كل مساء يعود فيه يجري معه مكالمة طويلة لطمأنتها لا تخلو من توصيته بـ “بالانتباه، والحرص” تخشى أن يكون الهدف.
العشاء الأخير
مساء العاشر من أكتوبر، هذه المرة لم يدم الحديث بين الزوجين طويلاً نتيجة انشغاله بصلاة العشاء وتناول العشاء مع زملائه الصحفيين، وورود نبأ عن نية الاحتلال قصف برج “حجي” الواقع على شاطئ بحر مدينة غزة، لكن صدى تلك الكلمات التي تدفقت من قلبه لا زالت تتردد في ذاكرتها: “بحبك. دير بالك على الأولاد. سامحيني” وأرسل لها صورة بالخوذة والدرع الصحفي قبل نزوله للتغطية بعد المكالمة بعشر دقائق.
اتخذ النواجحة وزملاؤه الصحفيون سعيد الطويل ومحمد صبح مواقع تصوير تبعد 500 متر عن البرج المستهدف، وجهزوا كاميراتهم لتوثيق الجريمة الإسرائيلية المرتقبة ووقفوا أسفل عمارة سكنية، وفي منزله وصل تهديد من جيش الاحتلال باستهداف بيت جيرانهم، فخرجت زوجته بين جنحي الظلام تحمل طفليها التوأم “ركان وإيلان” (ثلاث سنوات) ونامت ليلتها برفقة عائلتها عند أقاربهم، وانشغلت عن متابعة أخبار زوجها.
أسفل البرج المستهدف كانت عينا هشام وزملاؤه وتركيزهم متجها نحو البرج، ينتظرون توثيق لحظة القصف لينقلوها للعالم، بينما كانت عينا زوجته ترفض اسدال ستائر النوم منتظرة مكالمة منه.
اطلقت الطائرة الإسرائيلية صاروخها لكنه لم يتجه نحو البرج بل على أجساد هشام وسعيد ومحمد، ليستشهد الزملاء الثلاثة وهم يحاولون توثيق الحدث، فأصبحوا الخبر الذي سبق خبر استهداف البرج وكانت بداية سلسلة استهداف الاحتلال للصحفيين.
تصفحت الهاتف مع اقتراب عقارب الساعة من منتصف الليل، محاولة الاتصال به، لتتفاجأ بأحد أصدقائه ينشر منشورًا ينعى فيه الصحفيين الثلاثة بينهم اسم زوجها، لتدوي صرخة قهر انبعثت من قلبها في أرجاء المنزل لم تقوَ أحبالها الصوتية على نقل الكلمتين “هشام استشهد” فخرجت متثاقلتين مرتجفتين.
الصحفي الطموح
عام 2014 بدأ النواجحة عمله بالتصوير مستفيدا من خبرته السابقة على يدي والده الذي يملك استديو خاص بتصوير الأعراس، فطوّر نفسه وتعلم المونتاج وتخصص صحافة وإعلام بجامعة الأقصى، وأعمل بأكثر من وكالة إخبارية كان آخرهم وكالة خبر ووكالة نون.
“كان هشام مخلصا لعمله الصحفي، يتواجد لتغطية معظم الفعاليات الإعلامية، وكزوج عرفته “هيّنا ليّنا”، من الصعب إيجاد مثله، لا أتذكر أنه ظلمني في موقف أو رفع صوته أمامي، لذلك أصفاه الله شهيدا” تقول زوجته لصحيفة “فلسطين”.
أما عن طموحه، فأضافت بصوت مليء بالصبر “كان طموحه على سبيله الشخصي تطوير حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي وتوثيقها، فزاد عدد متابعي صفحته على فيس بوك وأصبح لديه 17 ألف متابع، وكان يسعى للسفر للحصول على دورات مختلفة لتطوير سيرته الذاتية”.
تنقلها الذاكرة لاستقبال هشام لشهر رمضان قائلة “كان يصر على تزيين البيت، فلا يمر رمضان بدون زينة، يحضر لي “فانوس” رمضان مثل أولاده، أتذكر كيف كنا ننزل على السوق قبلها بيوم، وقبل الإفطار بعشر دقائق كان ينزل على الشارع يوزع المياه والتمر للمارة والسائقين المتأخرين، ونحن في رمضان الحالي لم نترك عادته ونواصلها صدقة عن روحه”.
تعج ذاكرتها بمواقف كثيرة جمعتها به، تنتقي يوم ولادتها “كان الحمل خطر بسبب ولادة التوأم، فدخل إلى الأطباء قبل بدء عملية الولادة القيصرية لا زلت أذكر ما قاله جيدا: “أنا معلش الأولاد بيجي غيرهم. المهم عندي الأم”.
سيرة حيّة
صاحب العينين الخضراوتين والشعر المائل للأشقر بوجه مدور دائما يفرد ابتسامته أمام الجميع، يطل عليها من أدراج الذاكرة تسبق الابتسامة صوتها “اتصل بي من “رقم خاص” في رمضان الماضي، وغير نبرة صوته لدرجة أنني لم أعرفه فقال “اسمكم نازل للسفر” وعندما أخبرته أننا لم نسجل سألني “لو صحتلك فرصة تسافري، تروحي؟” وكان دائم المناغشة بهذه الأسلوب”.
بالرغم من أن عمل هشام في شهوره الأخيرة تضمن توثيق الأحداث ومتابعتها من بيته سواء من الضفة وغزة، إلا أن خروجه للمبيت خارج بيته لتغطية العدوان كانت للمرة الأولى والأخيرة، “كان ينشغل حتى وهو بالبيت عنا بسبب التغطية، ونجتمع يوم الجمعة بعيدا عن التغطية والأخبار، وفي آخر ثلاثة أشهر كان دائما الحديث عن الموت والشهداء رغم أنني أطلب منه عدم الحديث بذلك”.
رحل هشام لكن زوجته تصر على إحياء سيرته بالنشر على صفحته، فكتبت في أحد المنشورات “كنت أماني في هذا العالم المظلم ومن بعد رحيلك إعوجت عقارب بوصلتي وأصبحت تؤثر في غير الاتجاه”، وكتبت في آخر “حتى وإن غبت وغابت الأخبار عني، فالدعاء وصية بيننا”.
تعلق عن السبب الذي دفعها لإحياء صفحته “كان من الأشخاص الذين يحبون ترك أثر وبصمة لا تنسى، ورأيت حجم المجهود الذي كان يبذله في مجاله الإعلامي، فأكملت مسيرته لإحياء ذكراه وليترحم الناس على روحه”.
في آخر رسالة إعلامية نشرها النواجحة قبل استشهاده، نشر مقطع فيديو يطلب فيه من المواطنين طمأنة عائلاتهم وأطفالهم أمام العنجهية الإسرائيلية وحجم الدمار الكبير، وأنه “لن يحدث إلا ما كتبه الله” وختمها بالتأكيد على أن النصر سيكون حليف أبناء شعبه، لتكون رسالة أخيرة نشرها أصدقاؤه ورواد مواقع التواصل الاجتماعي.
تفتقد “إيلان” التي كان يلقبها “تفاحة القلب” لحضن والدها، ولم تجد الطفلة إجابة على سؤالها عن سبب غيابه، فلا زالت تنتظر عودته كلما رأته صورته في الهاتف للعب معها.