هل ارتدّ «الربيع العربي» على إسرائيل؟
المواطن
عبد المجيد سويلم
مهما ظهر هذا السؤال وبدا غريباً، وربما مستهجناً إلّا أنه ما زال واحداً من الأسئلة التي لم يُجب عنها بعد، وما زال ــ بهذا المعنى ــ مطروحاً للتأمّل والتفكير.
بالعودة إلى “الربيع العربي”، بقدر ما هو ممكن وضروري في سياق محاولة الإجابة عن هذا السؤال فإن النتائج التي ترتّبت على هذا “الربيع” أصبحت كافية ــ وربما ليست شافية بعد ــ لمساعدتنا في هذا الإطار.
لا يمكن الجزم بأن “الربيع العربي” قد نشأ على أساس “مؤامرة” خارجية قامت بها، وخطّطت لقيامها قبل أيّ جهةٍ أخرى، وأغلب الظنّ أن ركوب موجات هذا “الربيع” من قبل الولايات المتحدة، ومن قبل الغرب، وحشد “الطاقات والإمكانيات” العربية خلفها قد أربك المشهد، وأدّى إلى اختلاط وتشويه الصورة كلّها.
“الربيع العربي” في شراراته الأولى، وفي امتداداته الشعبية الابتدائية كان إلى درجة كبيرة التعبير عن حالة احتجاج ساخطة على بعض أنظمة الحكم العربية بما كانت قد وصلت إليه تلك الأنظمة من استبداد وفساد، وبما أوصلت “بلادها” إلى حالات نادرة من الفشل والمهانة، ومن درجات قصوى وغير مسبوقة من امتهان كرامة المواطن وسرقة لقمة عيشه ليس عند مستواها الكريم، وإنما عند حدود سدّ الرمق.
الغرب كان يراقب عن كثب وجهّز نفسه للتدخل في “اللحظة المناسبة”، وأعدّ الخطط التفصيلية بما فيها اللوجستية والتمويلية، وكان قبل كل ذلك قد بدأ بالتمهيد للبحث عن “البدائل السياسية”.
عندما نعود الآن إلى المراجع والوثائق والدراسات والأبحاث التي سبقت شرارات الانطلاق الأولى لموجات “الربيع العربي” نجد أن الولايات المتحدة قد “حسمت” خيارها مبكراً حول “البديل السياسي” وهو جماعة الإخوان المسلمين، والجماعات الإسلامية الأخرى، إضافة ــ بطبيعة الحال ــ إلى بعض الأوساط الليبرالية، وبعض حركات الاحتجاج السياسي والاجتماعي بما فيها تلك التي تعود للحركة الوطنية، والديمقراطية في تلك البلدان لكن هذه الأخيرة لم تكن من القوة لتتسلم زمام الأمور، ولم يكن الغرب “ليغامر” بأن يسلّم الراية لقوى كهذه، خصوصاً انه كان يدرك بعمق بأن من شأن ذلك “تحييد” القوى الإسلاموية كلها، وهذا ما شاهدناه بالضبط، إذ بدا وكأن هذه القوى هي التي تتصدّر المشهد، ثم ما لبثت أن توارت إلى الصفوف الخلفية.
هذه الصورة تكرّرت في تونس وسورية ومصر بما يشبه صورة النسخة الواحدة، أو الصورة طبق الأصل.
الدوائر البحثية والسياسية الموغلة في رجعيتها، وفي عدائها للشرق والغرب، والأكثر التحاماً بالمشروع الصهيوني اعتقدوا آنذاك أن ثمة فرصة “تاريخية” قد أصبحت سانحة لإعادة “هندسة” المنطقة. كيف؟
اعتقد المخطّطون الاستراتيجيون في الغرب ــ وليس الأوساط السياسية في المؤسسات الرسمية من هواة أو مناصب ومراتب تنفيذية معتادة، وكذلك بعض قيادات التخطيط الاستراتيجي في إسرائيل، وفي التجمعات الصهيونية في البلدان الغربية أن هذه “الفرصة” الجديدة تتمثل بالتالي:
العمل على تجديد “شباب” الحركة الصهيونية، وعلى تجديد أسس بناء الدولة في المنطقة.
السبب في ذلك كلّه هو أن الحركة الصهيونية فقدت الكثير من حيويتها على مدار عشرات السنين من القتل والإرهاب والتنكيل بالشعب الفلسطيني، وبشعوب المنطقة، أيضاً، وبفعل الكمّ الهائل من السياسات والممارسات العنصرية، وفي ضوء افتضاح طابعها التوسّعي والعدواني، المتصادم بالكامل مع مبادئ الحرية والعدل والسلام والمساواة وحقوق الإنسان، وهي بالتالي باتت تحتاج ــ أي الحركة الصهيونية وإسرائيل ــ إلى مبرر ثقافي وسياسي “جديد”، يعيد إليها الحيوية والدافعية، ويمهّد أمامها الطريق للتحوّل من “حركة ودولة” تجهد لكي تكون مقبولة في الإقليم إلى “حركة ودولة” طبيعية في هذا الإقليم.
وبما أن الحركة الصهيونية هي حركة عنصرية في جوهرها، وبما أن إسرائيل لا “يمكنها” إلّا أن تكون كذلك، أي دولة لليهود حصرياً دون الآخر الفلسطيني، بل وعلى حساب هذا الفلسطيني فقد أصبح في ضوء كل ذلك ضرورياً إلى أبعد الحدود أن تكون إعادة هندسة الإقليم هي الطريق والوسيلة لكي “يتأبّد” وجود هذا المشروع ــ الصهيوني ــ ووجود هذه الدولة ــ إسرائيل ــ في الهدف النهائي لهذه الهندسة.
هنا “تفتّقت” (عبقرية) الغرب العنصري والمتصهين عن نظرية المواءمة بين الدولة والعرق، أو بين الدولة والطائفة، أو بين الدولة والمذهب، أو بين الدولة والدين.
كان من شأن نجاح مشروع كهذا أن يقسّم المنطقة، وأن ينهي حالة الدولة “الوطنية”، وأن يعيد بناء هذه الدولة على أُسس، ما فوق وطنية، أو تحت وطنية إذا شئتم!
كانت إسرائيل ستبدو في هذه الحالة دولة “طبيعية”، عادية، شأنها في ذلك هو شأن الدولة، الكردية، أو الإخوانية في مصر وسورية وتونس، أو الدولة الإخوانية في غرب ليبيا، أو الدولة السودانية الجديدة في جنوب السودان، أو الدولة العلوية في شمال سورية، أو الدولة الشيعية في جنوب العراق، والسنية في الوسط والكردية في الشمال، والدولة المارونية المسيحية في لبنان، والدولة الشيعية في جنوبه، والسنية في وسطه.. هكذا كان المخطط، وهكذا كان التخطيط.
لم يكن هذا المشروع سيؤدي إلى تجديد “شباب” الحركة الصهيونية ودولتها فقط، وإنما كان سيكرّس “إسرائيل” كدولة متفوّقة في هذا المحيط، لأنها الدولة الأقوى، والدولة “الديمقراطية” الوحيدة، والدولة التي ترتبط بالغرب استراتيجياً على كل الصُعد بما في ذلك الصعيد الثقافي و”الحضاري” الغربي المندمج بالكامل بالمنظومة “القيمية” للغرب.
لكن عندما فشل “الربيع العربي” في الوصول إلى هذه النتيجة بالذات، بالرغم من نجاحه الكبير في تدمير “الدولة الوطنية” في بعض البلدان، وزلزلة أركانها في بلدانٍ أخرى، وتحويلها إلى دول فاشلة لعشرات السنين القادمة، تحوّل الغرب إلى استراتيجية جديدة وهي الاستمرار في التهشيم، والعمل على “إجبار” البلدان العربية وابتزازها لبناء تحالف جديد بين العرب وإسرائيل تحت ذريعة التهديدات الإقليمية الأخرى والتي تمثلها برأي الغرب تركيا وإيران وإثيوبيا.
فشل “الإسلام السياسي” في استلام زمام الأمور، وأدّت الحروب الداخلية الطاحنة لدخول جماعات الإرهاب الإسلاموية على خط القتال، وأصبحت إقامة الدول على الأسس الإثنية والدينية والطائفية والعرقية هدفاً بعيد المنال، إن لم نقل مستحيلا في المدى المنظور.
حتى “التطبيع” بدأ يتراجع دوره وأهميته “الاستراتيجية” بالرغم من كل محاولة التجربة “الإبراهيمية” وبالرغم من كل أشكال الدعم الذي تلقّاه هذا “التطبيع” من الولايات المتحدة والغرب.
فشل “الربيع العربي” بهذا المعنى وضع إسرائيل العنصرية والإثنية والتي تتحوّل بسرعة إلى الفاشية السافرة في مأزقٍ دولي وإقليمي، ودفع الحالة الداخلية فيها في مأزق وأزمة كبيرة لا يبدو أن حلّها سهل أو حتى ممكن، لأنها الوحيدة والفريدة التي بقيت من نموذج الهندسة الغربية.
فشل “الربيع العربي” في الواقع هو الهديّة الوحيدة التي تلقّتها شعوب هذه المنطقة على مدار عقود بأكملها.
تصوّروا ــ رعاكم الله ــ لو كان هذا “الربيع” قد نجح في إعادة هندسة المنطقة وفق مخطّطات هذا الغرب المتوحِّش؟!