سوسن حسن تكتب: الزلزال و”سورية يا حبيبتي”
المواطن
سورية يا حبيبتي، أعدتِ لي كرامتي … تقول الأغنية، في ما تقول: وبعثُنا يسير لمجده الكبير، مبشّراً بعودتي ورافعاً كرامتي مجدّدًا هويتي. وفي مقطع آخر: ففي الخيام طفلة المصيبة، تنادي يا سورّيتي الحبيبة، أعيدي لي حرّيتي … أعيدي لي هويتي … أغنية لطالما هزّت وجداننا، نحن في سورية، وفي كلّ بقعةٍ من الوطن العربي الذي كانت شعوبه قد تجرّعت الهزائم حتى الثمالة، لتندلع حرب تشرين في العام 1973، ولتنطلي الخدعة على هذه الشعوب، وتصدّق أن هناك من أعاد لها كرامتها، وحرّيتها، ويعدها بتجديد هويتها.
ولكن سورية “الحبيبة” اليوم تنهار بضربة زلزال، ليس زلزال انتفاضة الشعب التي كانت تتطلع إلى الاكتمال والنضج والثورة، وكما يطلق عليه الناقد السوري نبيل سليمان، لكنه زلزال الطبيعة، زلزال الأرض التي تميد من تحتنا، فتنهار البيوت ويزداد عدد ضحايا هذا الشعب المنكوب.
سورية يضربها الزلزال، من شمال لواء اسكندرون إلى لبنان، ضرب ولايات تركية وانهارت فيها آلاف البيوت والمباني، وانتشر إلى حلب وإدلب وحماة واللاذقية، مدينة حلب الأكثر تضرّرًا، راح فيها ضحايا كثيرون، إدلب، واللاذقية وجبلة أيضًا، المحزن أن عدّاد الضحايا يشتغل على خطّين، خطّي النظام والمعارضة. وعلينا، نحن السوريين في الخارج، القاعدين على جمر الترقّب والحزن والقلق، أن نجري العمليات الحسابية، ونعدّ موت أهلنا، موتنا، الذي لم يفارقنا منذ أحد عشر عامًا.
الطبيعة تمارس عدلها “الجائر” في توزيع الموت، لا تفرّق بين موالٍ ومعارض، فهما من أبناء هذه الأرض الغاضبة.
في سورية، تأتي أحزاننا مكتملة، مصائبنا مكتملة، موتنا لم يكتمل بعد، لكنّه مقيمٌ في ما بيننا، أقرب إلينا من حبل الوريد، عقد، وعامان من عقد يليه، وسورية تنهار، فقط، لأن شعبًا أراد الحياة، فكان القدر غاشماً، لم يستجب كما قال شاعرٌ متفائل، لم يعش حتى يرى أنّ الأمل بعيد عنّا، وأن أنظمة أحكمت القبضة على رقاب شعوبها، وأن مجرّد الصراخ من أجل الحرية كان كفيلًا بأن يفتح نيران جهنم عليها.
سورية مدمّرة لأنها يتيمة، وليست دائرة الطباشير خاصتها سوى كذبة بلون الدم، سورية مرمية في مركز دائرة الدم، نظام ومعارضة يشدّون أطرافها حدّ أنها تمزّقت نتفًا بين أيديهم في حرب الملكية وانتزاع السلطة، في حرب الصراعات على السيادة والنفوذ وامتصاص ما بقي من نسغٍ في عروق الأرض وأبنائها، يتقاوى كلّ طرفٍ منهما على الشعب الواقع تحت حكمه بجهاتٍ خارجية، يتلقون الأوامر من داعميهم وأسيادهم، ويمارسون سيادة الطغيان على محكوميهم.
المصيبة اتحاد السوريين في شرط وحيد، الموت، فقط الطبيعة تمارس عدلها “الجائر” في توزيع الموت، لا تفرّق بين موالٍ ومعارض، فهما من أبناء هذه الأرض الغاضبة، أبناء الدم الواحد، المسفوك بمنتهى الرخص فوق ترابها، وعند الشدائد، وأمام الموت الجبار، يظهر عجز هذه الأنظمة عن إدارة الحياة بأبشع صوره، ها هي الأبنية المنهارة تتكوّم ركامًا فوق أجساد النائمين وقد باغتهم الموت، هو موتٌ لا يُنذر، بينما كانت البراميل تُنذر أحيانًا، إذ إن المكان ساحة معركة، وكان الناس يعرفون أن هناك موتًا قادمًا إليهم، فهربوا، ومن لم يهرُب باغته في مأمنه، وربما ليس مأمنه، بل مكانه الإجباري، فحصدت الحرب عشرات الآلاف، وهجّرت مئات الآلاف، والنتيجة أن ما كان يُسمّى مجازًا وطنًا ودولة، فقد آخر ملمحٍ من ملامحه، وراحت “سورية الحبيبة”.
لا توجد مؤسّسات مجتمع مدني، فتلك من الكبائر لدى أنظمة القمع والطغيان، لا يوجد غير سواعد الأهالي الذين تجمعهم المصائب.
وبعثُنا يسير، لمجده الكبير… هذا هو المجد المبني على بحيرات الدم، وتلال الجماجم، بعد خمسين عامًا من الضلال، خمسين عامًا من وهم القضايا، خمسين عامًا من غربة الأرواح، خمسين عامًا من الفساد الذي زرع النخر في أسس أي بنيان، من بنى الحجر إلى بنى الإنسان، فوقع الزلزال ولا تملك حكومة النظام، ولا مثيلاتها في مناطق الشمال تحت سلطات الأمر الواقع، ما يكفي لإنقاذ الأرواح، لرفع الأنقاض وانتشال الأجساد التي فارقت الحياة أو تلك التي تئنّ تحتها، لا تملك المشافي ما تواجه به هذه الكارثة، لتنقذ أرواحًا ربما ما زال لديها رمق ينتظر الإنعاش.
لا توجد مؤسّسات مجتمع مدني، فتلك من الكبائر لدى أنظمة القمع والطغيان، لا يوجد غير سواعد الأهالي الذين تجمعهم المصائب، وتطلق حسّهم الإنساني المقموع المستهدف كأول غاية في هذه الحرب، استهداف الإنسان، تطويع عقله وروحه، فلا يبقى أمامه في تحدّي مشكلاته الحياتية المتفاقمة يومًا بعد يوم، غير توجيه نوازعه الثأرية باتجاه الآخر، الذي هو أخوه وشريكه في الوطن والحياة، جعلته الأطراف المتنازعة أولّ المصائب وأخطرها، فصار السوري ينظر إلى السوري المختلف عنه في العقيدة أو الأيديولوجية، أو القومية، أو غيرها مما يفرّق، على أنه سبب خراب البلاد والعباد.
ولكن الزلزال، برغم فداحته، وبرغم الصدمة، أعاد إحياء جذوة القيم والإنسانية في ضمائر السوريين، فهرعوا لينقذوا، هرعوا ليحلّوا محلّ الحكومات العاجزة، وبدأت نداءات التعاون والتضامن والتكافل تملأ فضاء صفحات التواصل، وفتح أهل الريف بيوتهم لأهل المدن المتضرّرة، ودعوهم ليأتوا إليهم، إلى حين يسكُت غضب الأرض، فهل غضب الأرض هذا سيفتح بصيرة السوريين الذين ما زال بعضُهم يرى في كل ما يحدث مؤامرة كونية على سورية؟ أو أولئك الذين، في المقابل، يرفعون صور زعماء ليسوا سوريين، وأعلام بلاد ليست سورية؟
أطفال سورية في المخيمات، حيث لا وطن في بالهم، ولا مستقبل، ولا أمان، ولا وعد.
هل ستُنقّي هذه المصيبة ضمائر بعض السوريين وتفتح ثغراتٍ في عقولهم التي استُلبت لصالح أجندات الجهات المتنازعة على مقدرات البلاد والسطو على السلطة، وتجعلهم يقرؤون الكلمات بعد غسلها من العسل المسموم، أو يسمعون الخطابات فيسقطون الضلال منها؟
تتحدّث افتتاحية إحدى الصحف عن الأسيرات في السجون الإسرائيلية، وعن المعتقلين والوحشية في معاملتهم، وفيها: الانتصار لهؤلاء الأسرى والأسيرات فرضُ عينٍ على كل مؤمن بالله تعالى. وتستشهد بآية كريمة، وتتساءل الافتتاحية عن معنى أن يُسلب من أعمار المعتقلين أعمارهم؟ وكأن ما يحصل في سورية كذبٌ وافتراءٌ وتضليل، وكأن ليس هناك عشرات الآلاف من المعتقلين والمغيبين والمفقودين، وكأن انتفاضة الشعب السوري لم تكن من أجل الحقوق والكرامة.. فأي ضلالٍ وتضليل هذا؟
في الخيام طفلة المصيبة، تنادي يا سوريّتي الحبيبة .. ليست فقط طفلة مخيمات فلسطين، إنهم أطفال سورية في المخيمات، حيث لا وطن في بالهم، ولا مستقبل، ولا أمان، ولا وعد.. أطفال سورية في بلدان اللجوء، حيث لا هوّية لهم اليوم، ولا يعرفون أي هوية سيمتلكون. هذه هي سورية التي ضربها الزلزال، وهذه هي حكومات سورية الفادحة، الحكومات التي لم تكن غايتها الشعب في يوم من الأيام.
“أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيّدة” كما قال تعالى، حتى لو بنى الطغاة أبراجهم على جماجم شعوبهم، سيُدركهم الموت بعد حين، مهما كانت محصّنة ضد الزلازل .. السلامة والأمان للشعب السوري في كل بقعة، وللشعب التركي الذي ضربه الزلزال .. على أمل القيامة لهذه البلاد المنكوبة.