أقلام

رواية « الحياة كما ينبغي » ونبوءة الروائي عن جنين وأخواتها

كتب تحسين يقين :

هو الأدب من الحياة، ولكن ليس انعكاساً لها، ومعبراً عنها فحسب؛ بل هو الفاعل السحري باتجاه ما ينبغي أن يكون، وما ينبغي أن يكون أكثر وعياً وجمالاً.
اطلعت على الرواية قبل أشهر، وكتبت عنها قبل أحداث جنين الأخيرة، لكن عدت ربما لأحرر النص ثانية، رغم أنه نصّ نقديّ، لكن النشر بالإعلام يقتضي إجراء معالجة إضافية.
من يقرأ نص رواية د. أحمد رفيق عوض “الحياة كما ينبغي” يدرك معنى النبوءة من جهة، ومعنى دور الأدب في الحياة الإنسانية والمقاومة بالطبع كفعل إنساني، من خلال عنوانها المتمركز في جنين ونابلس.
لعلها من أوائل الروايات الفلسطينية التي أوحت بما يمكن أن آل له الحال، بما التقطته من ظاهرة انتفاضة السكاكين، التي وصفت بعدم التسييس، والتي تجلت مؤخراً عبر مجموعات جديدة، ظهرت بشكل خاص في مخيم جنين الذي لجأ له راشد الشخصية الرئيسية في الرواية، والبلدة القديمة في نابلس، التي سُميت بعرين الأسود.
تماماً، يمثل ضابط المخابرات أبو السعيد، وما آل إليه، حكومات إسرائيل المتعاقبة التي ترفض حق تقرير مصير شعبنا، ففي حين يلاقي ضابط المخابرات مصيره الأسود، كما ينبغي لفعله، فإن الشاب راشد يمضي الى مجموعة المقاومين، الذي تربطه بهم الشعور والوطني والمعتقل لا الانتماءات السياسية.
اختار راشد فعل المقاومة كفعل نبيل يمضي كالغزال مشيا على الطين دون تعثر، في حين يصرّ ضابط المخابرات بخطواته شديد التوتر والانفصام على غير النبل؛ فكلٌ إذن ومصيره.
هما جنين وفلسطين في فصلي الشتاء والربيع، زمن الرواية؛ حين أن مضمون الرواية الفلسطيني تماما، استدعى المكان، فشعرنا بحواسنا، فمن يقرأ الرواية لن يسلم من ملمس الأرض ولا روائحها، ولا طعم اللوز والثمار البرية. وهناك، ستجد نفسك في رأس شجرة غزيرة تخفي راشد عن أعين المحتل لأرضه، لا يطل منها فقط على سهل عرابة-يعبد الملتبس بمن يمتلكه خلقا جواً من المرح القديم والجديد، بل يطل على الكون عبر تأمل هذا الصراع، سياسيا ووجوديا. هناك أطل راشد على الكون واختار الحياة كما ينبغي.
أثر الرواية الأقوى هو ما علق بحواسنا؛ ولم يكن الانتهاء منها إلا استمرار لما فيها من ملامس وروائح وبصر. ولعل “الحياة كما ينبغي” حياة حقيقية عشناها بحواسنا، وليس بأفكارنا المجردة فقط مهما كانت سامية.
هي رواية الحواس، في ظل ما يعانيه الأدب الروائي من نقص في هذا المجال؛ بما يرسّخ تواجد الكاتب الروائي أحمد رفيق عوض بقوة في المشهد الروائي.
وقد ننزع الى تفسير حالة الشاب المقاوم، من خلال هذا التأثير، بمعنى أن الارتباط بهذا المكان يدفعه الى فعل مقاوم، حتى ولو لم يكن منظماً.
ولكن السؤال فعلاً، هل ما أورده الكاتب من سبب للنضال كاف للفعل خصوصا في ظل تعرّض الشاب أن يصبح مطلوباً؟
راشد شاب خريج جامعي، يعمل في وظيفة عادية، بعيدة عن اختصاصه، يتعرض للاعتقال خمس سنوات نتيجة احتجاجه على اضطهاد جنود الاحتلال للناس، يخرج من المعتقل حيث يكون قد مرّ في تحولات زادت من قناعاته بوجوب التغيير. وبالرغم من دخوله مسار الحياة الواقعية في العمل وتكوين أسرة، إلا أنه يكون قد بيّت النية على فعل ما.
يبدو أن مصيره الشخصي والعائلي، صار مرتبطاً أكثر بالخلاص العام، فكانت مبادرته لإطلاق النار على دورية للاحتلال، ليدفعنا للبحث عن المؤثرات السيكولوجية، متسائلين ما إذا كان فعله مرتبطاً فعلاً برفضه للاحتلال.
وهو هنا، إنما يدلل على أن المقاومة، ليست خاصة بفئة، بل يمكن أن تكون فعلاً عادياً؛ فهذه العادية إنما تعبر عن رفض المجموع للاحتلال، عبر إزعاجه، وتدفيعه الثمن.
لقد ذهب أحمد رفيق عوض الى هذا المعنى، في ظل تحولات المقاومة الرسمية خاصة بعد الانتفاضة الثانية، ودخول مرحلة جديدة، ونعني بها انتفاضة السكاكين، والتي تميزت بغياب التنظيم. وكأن لدى الكاتب افتراضاً معيناً، ناقداً للتنظيمات، وإعادة الاعتبار للفعل الفردي.
وهنا، في ظل إعادة الاعتبار للعامل الفردي، وفي ظل تحولات ما بعد أوسلو عموماً، وما بعد الانتفاضة الثانية، نجد أن مجموع هذه الأعمال الفردية، تتفاعل معاً، وتلتقي لتكون أنوية تنظيم بديل، حيث بالرغم من وجود انتماءات سياسية وأيديولوجية داخل المجموعة الجديدة في المخيم، إلا أن ما يجمعها هو ناظم المقاومة، وهذا اجتهاد الكاتب وتفسيره لظاهرة مجموعات الشباب المسلحة.
لكن وبالرغم من أهمية منطلق الإيمان بالمقاومة، إلا أننا كنا إنسانياً ووطنياً بحاجة لروافع أخرى في الرواية، مثل رافعة النقد السياسي، والرغبة بالظهور وتفريغ الطاقات الوطنية.
ولعل لجوء الكاتب الى الأسلوب البوليسي، الذي جعلنا نتابع بتشوق عملية المطاردة، أذهب التساؤلات التي ظهرت في الذهن، والتي تبحث عن أسباب قوية للفعل. وقد كانت اللغة العادية رافعة في تقريب الرواية من القراء.
لقد أدخل الكاتب القراء في عوالم القرى، والشجر والطين، وهو عالم جميل ومشوق لما فيه من إيحاء الحنين، لقراء بعيدين عن طقوس الأرض ومواسمها، كذلك في عوالم المطاردة البوليسية.
ارتبط التخفي بعالم الأرض، حين أنسن الكاتب الأشجار، والتي صارت فضاءات بيوت تضم الشاب راشد، كأنه طير، فهذه تضمه وهذه تطعمه، وهذه تمنحه الرائحة. ولعل اللجوء الى الأشجار للتخفي ومباغتة قوات الاحتلال كان سائدا في الانتفاضة الأولى، والتي كانت لكثافة أغصانها وأوراقها مكاناً ملائماً للتخفي أثناء النهار. وهكذا مع ظهور المواطن القروي، والذي نكتشف أن ابنه استشهد من قبل، يتكامل الفعل البشري بالطبيعي، حيث ينتقل المطارد من الطبيعة الى البيت، لينعم بدفء إنساني وطعام، حيث يعود سيرته الأولى. ثم ما إن يصل المخيم، حتى يلجأ للحاضنة الوطنية هناك، والتي ينعم بحميميتها، خصوصا أن ثمة رابطاً بينه وبين مقاومين جمعتهم المعتقلات.
لكن وبالرغم من هذا وغيره، فإننا لمسنا خاصة في الصفحات الأخيرة، أن المصير الوطني ما زال حاضراً، وما زال دافعاً لاستمرار الفعل المقاوم. ولعل اختيار الكاتب جزء من الزمن في فصل الربيع، يوحي بأن صيفاً قادماً يمكن فيه قطف الثمار.
في ظل ملاحقة ضابط المخابرات الإسرائيلي للمقاوم، وعبر إيراد معرفته للأماكن، يجري الكاتب كشفاً لنفس الضابط الملتبسة ما بين كراهية الفلسطينيين من جانب، وبين ميوله الإنسانية ليحيا هذه الحياة القروية بكل جماليالتها وطعومها بل وطقوس الأرجيلة والأغاني العربية. ربما يكون لذلك علاقة بكونه من أصول يهودية شرقية. وربما أن طاقة المكان نفسها قد سحرته، فتمنى امتلاكه والعيش فيه، ولما كان ذلك صعباً، فقد خلق عالماً آخر في بيت ابنه، حاكى من خلاله ذلك العالم الذي وقع في حبه في ظل كراهيته أصحابه الأصليين.
شخصية ضابط المخابرات أبو السعيد (السفاردية) الملتبسة، والقلقة، والتي يتخفى فيها عن زوجته (الأشكينازيم)، تدخله قلقا آخر ليواجه مصيره، حيث أن هذه الإشكالية، ما تلبث أن تودي به، حيث تخونه زوجته مع رجل آخر من (قوميتها)، في حين يتم التحقيق معه من خلال المؤسسة الأمنية، عن أفعاله التي يحاكي من خلالها حياة الفلسطينيين، خشية تحوّل ذلك إلى تعاطف قادم مع أصحاب المكان.
وبالطبع، لربما يوجد هناك مصطلح ما نفسي أو ثقافي يصف المحتل الذي يقاوم الفلسطينيين في العلن، ويحاكي حياتهم في السرّ، لكن في الوقت نفسه، فإن الكاتب كان ذكياً بالوصف، بحيث لم يؤنسن المحتل، وإن كشف في الجوانب غير المرئية في شخصيته.

الحياة كما ينبغي!
أن تكون؛ بإكمال العبارة.
تشويق، أم استحقاق أم وصف لدوافع الفلسطيني، باتجاه التغيير؟
فحتى تكون حياة، فهي يجب أن تكون كما ينبغي، أي بمواصفات الحياة.
لعلها من أوائل الروايات الفلسطينية التي التقطت ظاهرة انتفاضة السكاكين، التي وصفت بعدم التسييس. ولعلها أيضا، التي تجلت مؤخرا عبر مجموعات جديدة، ظهرت بشكل خاص في مخيم جنين الذي لجأ له راشد، والبلدة القديمة في نابلس، التي سميت بعرين الأسود.
كان من الممكن مضاعفة عدد صفحات الرواية، بما يمنح فرصة للتعرف على فضاءات الشخصيات، والأماكن، والتعبير عن العوامل النفسية المحركة للشخصيات، لكن الكاتب لربما كان مسكونا بإيصال رسالة ما.
من يقول انتهت المعجزات سيعيد التأمل من جديد. تلك الرواية التي تجترح الفعل والفكر معاً، عبر رحلة مطاردة أشبه بالبوليسية، والفرق هنا أنها رحلة شخصية ووطنية ووجودية.

زر الذهاب إلى الأعلى