أقلام

تونس أوروبا.. تذكرة ذهاب بلا عودة

هانى الصاوى عويس
كاتب وباحث متخصص في الشأن الفلسطيني والعلاقات الدولية من فلسطين القدس

ينتظر آلاف المهاجرين، على سواحل تونس، الضوء الأخضر، للركض نحو قارب متهالك، كأحلامهم المتهالكة، والتي لملموا بعض منها في حقائبهم، قاصدين أوروبا، لا يعرفون ما ينتظرهم من مصير مجهول، لكنهم فضلوا الاختيار الأصعب بعبور الأبيض المتوسط، في رحلة بحرية قد تكون أمالهم أحيانًا، وقبورهم في أوقات كثيرة

150 كيلو مترًا، تلك المسافة الفاصلة بين البلد الواقعة في شمال أفريقيا، وجزيرة لامبيدوزا الإيطالية، يقطعها المهاجرون مبحرين في رحلة محفوفة بالمخاطر تفرض سؤالا ملحًا عن سبب تزايد الهجرة غير النظامية من بوابة تونس

المتأمل للمشهد، وهواة تحليل الأرقام، لن يبذل جهدا لملاحظة أن تونس احتلت المرتبة المركز الأول بين دول العبور الأخرى مثل ليبيا، والجزائر، والمغرب، بعد أن سجلت وكالة حرس الحدود الأوروبية “فرونتكس”، زيادة بنسبة 1100% في عدد عمليات العبور خلال النصف الأول من العام الجاري، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي ويرسم المهاجرون على الساحل الأفريقي صورة قاتمة، يغلفها السواد، ما بين غرقى، وعصابات تتاجر بالأرواح والأحلام، وحكومات تواجه الابتزاز بحجة التمويل مقابل إغلاق “صنبور” المهاجرين

الشاهد في قضية الهجرة غير الشرعية، هو سعي حكومة الرئيس التونسي قيس سعيد، في كبح تلك الأزمة، والتي تنظر لها الدولة من منظورين، الأول هو أن هناك مؤامرة تحاك بتونس لتغييرها “ديموغرافيا” من خلال توافد المهاجرين الأفارقة، والثاني هو رغبة البلد في غسل أيديها من مسؤولية المهاجرين غير الشرعيين أمام أوروبا، ورفض فكرة ترحيل المرفوضين من دخول القارة العجوز إليها

إذن ترفض تونس مبدأ المساومة، في مقابل رغبتها الجدية في مواجهة القضية بمبدأ عادل، يرضي طرفين كلاهما متضرر وهما دول العبور، ودول الوصول، وهو ما بحثه الرئيس التونسي خلال مؤتمر روما بمشاركة 20 دولة، بهدف الحد من الهجرة غير النظامية عبر مساعدة دول أفريقيا، وبناء شراكات لمشاريع في قطاعات الزراعة والبنية التحتية والصحة

والحقيقة التي أرادت تونس إبرازها دائما هي السياسات غير الإنسانية للاتحاد الأوروبي في البحر المتوسط، وتقاعسه عن دوره في مناطق البحث والإنقاذ البحرية، وفرض سياسة عسكرة البحر في الجزء الجنوبي الأمر الذي قد يقود إلى تفاقم المآسي الإنسانية

وتعرف أوروبا أن جميع الحلول التقليدية قد لا تجدي نفعًا في حل هذه الأزمة، دون أن تساعد في إنعاش بعض الدول الأفريقية الطاردة للشباب بسبب الظروف المعيشية الصعبة، ولن ينجح ذلك دون استثمار حقيقي داخل القارة السمراء يعود بالنفع على الحكومات وشعوبها

كلمات الرئيس التونسي خلال مؤتمر روما لا تحتمل تفسيرين فهي واضحة ومباشرة أراد منها إيصال رسالة لأوروبا أن حل قضية الهجرة غير النظامية لن ينجح أبدا عن طريق تحركات منفردة، ولكنه يقتضي تكاتف دول العبور والوصول

وربط «سعيد» بين الهجرة غير النظامية والوجه الآخر للعبودية الحديثة، ولكن حتى لا تتبخر الحلول، كما تتبخر أحلام المهاجرين في عرض البحر، وحتى لا تكون كالنقش على الماء، كان لابد لمقترحات جذرية لحل الأزمة

أولا تعد إيطاليا أكثر المتضررين من الهجرة غير الشرعية وفقا لما ذكرته السلطات الإيطالية إن نحو 80 ألف شخص عبروا البحر المتوسط ووصلوا إلى سواحل إيطاليا منذ بداية العام، مقابل 33 ألفا خلال الفترة نفسها من العام الماضي، وقد انطلق معظمهم من الساحل التونسي
لذلك كانت إيطاليا أولى الساعين للقاء الرئيس التونسي، لوقف هذا السيل الجارف من المهاجرين، واقترحت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني خلال رحلتها لتونس قبل شهرين، برفقة رئيسة المفوضية الأوروبية

وخلص أطرف اللقاء في الاجتماع المأمول إلى ما يمكن وصفه بــ”100 مليون يورو.. والنقاط الخمس”، وهي تعني حزمة من الدعم النقدي إلى تونس من أجل عمليات البحث والإنقاذ وإعادة المهاجرين إلى أوطانهم، ويُعد هذا المبلغ ثلاثة أضعاف المبلغ الذي دعمته بروكسل أخيرًا للدولة الواقعة في شمال إفريقيا في المتوسط كل عام

ويُمكن أن يصل إجمالي المبلغ إلى 900 مليون يورو التي تحتاجها الدولة الواقعة في شمال إفريقيا التي تضررت اقتصاديًا، بالإضافة إلى التعاون في النقاط الخمس: مجال التعليم، وتعزيز الاقتصاد التونسي، والاستثمار في الطاقات المتجددة في تونس، والتعاون الاقتصادي، والهجرة

وكقطعة العملة المعدنية، يبرز الوجه الآخر مت الهجرة غير النظامية معاناة تونس من الهجرة غير النظامية والتي كانت حديث وسائل الإعلام خلال الأشهر القليلة الماضية، بعد تدفق الآلاف من المهاجرين بشكل غير شرعي على صفاقس في الأشهر الأخيرة، بهدف الانطلاق إلى أوروبا في قوارب يديرها مهرّبو البشر، مما أدى إلى أزمة هجرة غير مسبوقة في تونس

معاناة تونس من أزمة الهجرة غير الشرعية على أراضيها، وصفتها الحكومة بالمؤامرة ضدها، وهو ما أكده مسؤول بمجلس الأمن القومي التونسي، أّنَ المهاجرين المقيمين بشكل غير قانوني في تونس تلقوا تحويلات بـ3 مليارات دينار (نحو مليار دولار) من دول إفريقيا جنوب الصحراء، خلال النصف الأول من 2023
سرعان ما جاء تصريحات الرئيس التونسي، بالجزم بأن بلاده مستهدفة أمام موجة الهجرة غير الشرعية من إفريقيا جنوب الصحراء إلى بلاده، والتي وصفها بأنها مؤامرة تهدف إلى تغيير التركيبة الديموغرافية لتونس”الترحيل، الترحيل ولا شيء غير الترحيل”، تلاحمت كلمات الرئيس التونسي، مع المسيرات الغاضبة في تونس بعد أن خرج العشرات من التونسيين الغاضبين في وقت سابق للاحتجاج على تواجد أفارقة جنوب الصحراء في بلادهم بشكل غير شرعي واعتبر المحتجون أن تركزهم في مدينة صفاقس، المدينة التي تضم أكبر عدد من الأفارقة يشكل تهديدا لسلمهم الاجتماعي
خلاصة القول أن تونس تشهد موجات هجرة قياسية هذا العام رافقتها حوادث غرق مأساوية كلفت أرواح مئات الأشخاص الساعين لبلوغ السواحل الأوروبية، ووصل عدد الجثث التي انتشلها السلطات إلى 901 منذ بداية العام الجاري وحتى 20 يوليو
أخيرا آمل أن تجدي “الشراكة الاستراتيجية” التي وقعها الاتحاد الأوروبي وتونس، نفعًا في حل تلك الأزمة، والتوصل إلى اتفاق يتضمن تضييق الخناق على مهربي البشر وتشديد الرقابة على الحدود

زر الذهاب إلى الأعلى