أقلام

أبرياء وقتلة .. حصار غزة وحرب الإبادة الجماعي

امنية عبد العزيز الفرماوى

بعد الهجوم العسكري المفاجئ الذي نفذته “كتائب القسام” على المستوطنات في مدن غلاف غزة في السابع من أكتوبر 2023، وبعد إعلان إسرائيل حالة الحرب والاستنفار العام وتنفيذ ضربات صاروخية عنيفة على قطاع غزة لمدة 10 أيام، قررت حكومة إسرائيل فرض حصار كامل على قطاع غزة. هذا يعني أن غزة ستتحول من سجن يسمح بمرور الكهرباء والطعام والعلاج بصعوبة إلى صندوق مغلق تمامًا، حيث لا يوجد ماء أو كهرباء أو طعام أو دواء، وهناك 2.3 مليون شخص يتعرضون للقصف المستمر والعشوائي دون وجود ملاجئ آمنة. وهذا يعني المزيد من القتلى والجرحى دون وجود خدمات للموتى أو الناجين.
هنا يثور التساؤل عن حجم التداعيات الإنسانية لهذا الحصار المفروض من قبل حكومة إسرائيل اليمينية المتشددة وبمباركة وتأييد الولايات المتحدة.
يواجهنا سؤال آخر في ظل هذه الأحداث الهامة: هل فرض الحصار على هذا العدد الكبير من المدنيين، وخاصة الأطفال، قانوني؟ وهذا يُعقّد بصعوبة خروجهم كنازحين أو لاجئين، ما هو الحال الذي يواجه مواطني الدول المتورّطة في صراعات مسلحة. وتُعزى هذه الصعوبات إلى طبيعة القضية الفلسطينية المميزة، والتي يقدم الفلسطينيون المقيمون في قطاع غزة والضفة الغربية والمدن الفلسطينية المحتلة تمثيلًا لها ودفاعًا عنها. في النهاية، ما هي السيناريوهات الممكنة لرفع هذا الحصار حتى ولو جزئيًا؟

التداعيات الإنسانية: ماذا يعني “حصار” مدينة؟

غزة أصبحت اليوم تواجه كارثة إنسانية هائلة، ولكنها ليست نتيجة لكوارث طبيعية أو بيئية، بل هي كارثة إنسانية ناتجة عن استمرار العدوان العسكري الإسرائيلي.
وفقًا للمعلومات من مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة في 16 أكتوبر 2023، عدد القتلى الفلسطينيين من التداعيات الإنسانية في العشرة أيام الأولى بلغ أكثر من 2670 شخصاً بسبب الهجمات الإسرائيلية. ومن بين الضحايا، كانت هناك 600 طفلاً وأصيب حوالي 9600 شخص.

استمرت عملية النزوح الجماعي في جميع أنحاء قطاع غزة خلال الساعات الأربع والعشرين الماضية. وقد ارتفع العدد الإجمالي للنازحين بنسبة 30٪ خلال الساعات الأربع والعشرين الماضية، ليصل الآن إلى 600 ألف شخص، حيث يعيش أكثر من ثلثي هؤلاء في مدارس الأونروا. ومن المتوقع أن يزيد هذا العدد في المستقبل. تتطلب هذه الزيادة الكبيرة والمستمرة من المنظمات الإنسانية المعملة في القطاع تلبية الاحتياجات الأساسية للنازحين مثل المأوى والفراش والغذاء والماء ومرافق الصرف الصحي، في ظل غياب تام للأمن وإغلاق كلي للإمدادات.
تسببت الغارات الجوية الإسرائيلية التي بدأت منذ الاشتعال في العديد من المنشآت المائية والصرف الصحي والنظافة في شمال غزة. وقد كانت تلك المنشآت تزود خدمات المياه والصرف الصحي لأكثر من 1,100,000 شخص، وبالتالي يعاني نحو نصف السكان بلا مياه صالحة للشرب أو خدمات صرف صحي. وفي الوقت نفسه، يتمتع رؤساء البلديات داخل القطاع بكافة سبل الرفاهية بما في ذلك الماء والكهرباء. في منطقة بيت لاهيا والمناطق الشمالية الأخرى، تتكدس مياه الصرف الصحي والنفايات على الشوارع بسبب الأضرار التي لحقت بشبكات الصرف الصحي والبنية التحتية. وهناك تقارير منظمة الصحة العالمية عن 48 هجومًا على منشآت صحية داخل القطاع، وتم توثيقها في نظام مراقبة الهجمات على منشآت الرعاية الصحية التابع للمنظمة. وقد أسفرت تلك الهجمات عن مقتل 12 عاملًا في الرعاية الصحية وإصابة 20 آخرين، وتضرر ما لا يقل عن 18 منشأة للرعاية الصحية و20 سيارة إسعاف.
وفقًا للتقارير الأولية، تم قصف ما مجموعه 144 مرفقًا تعليميًا، بما في ذلك 20 مدرسة تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا) و165 مدرسة تابعة للسلطة الفلسطينية. حتى الآن، لم يتمكن أكثر من 600 ألف طفل في غزة لمدة ثمانية أيام على التوالي من الوصول إلى التعليم أو إيجاد مكان آمن.

توقفت السلطات الإسرائيلية عن بيع وتوريد الكهرباء لقطاع غزة مساء يوم 7 أكتوبر، مما أدى إلى تقليص ساعات التيار الكهربائي إلى 3-4 ساعات يوميًا.
عندما نفد الوقود من محطة توليد الكهرباء في غزة وتوقفت تمامًا عن العمل، أدى ذلك إلى انقطاع المصدر الوحيد للكهرباء في المنطقة. حذرت السلطات الإسرائيلية من أنها ستهاجم المحطة إذا تم تزويدها بأي وقود وأعادت تشغيلها. نتيجة لذلك، لا يزال القطاع في ظلام دامس لليوم الخامس على التوالي. تشير التقديرات إلى أن احتياطات الوقود في المستشفيات ستكفي لمدة أربعة وعشرين ساعة فقط، مما يعرض حياة الآلاف من المرضى والمراجعين للخطر في حالة توقف مولدات الطاقة.
تعني انقطاع الكهرباء عدم توفر الطاقة الكافية لتشغيل آبار المياه وضخ المياه عبر النظام، ونتيجة لذلك، توقفت آخر محطات تحلية المياه في قطاع غزة عن العمل مما يهدد حياة آلاف الأشخاص بسبب الجفاف وانهيار نظام النظافة العامة. كما تأثرت خدمات الصرف الصحي في جميع أنحاء غزة. وتوقفت محطات معالجة مياه الصرف الصحي في غزة عن العمل بسبب نقص الوقود، ويتم التخلص من أكثر من 120 ألف متر مكعب من مياه الصرف الصحي في البحر يومياً. كما توقف تماماً إمدادات المياه من إسرائيل ابتداءً من مساء يوم الثامن من أكتوبر، مما تسبب في نقص حاد في مياه الشرب لأكثر من 650 ألف شخص.
شنت الضربات الجوية على العديد من المرافق الاتصالات ، مما أدى إلى تدمير خطوط الاتصالات المتنقلة الثلاثة. وبالتالي ، يعتمد سكان غزة الآن على خط واحد فقط للاتصالات من خلال الهاتف المحمول والإنترنت ، مما يتسبب في انقطاع خدمات التليفون المحمول والإنترنت.

قانونية فرض الحصار: حرب أم جريمة حرب؟
وفقاً لقوانين القانون الدولي الإنساني ووفقاً لتصريحات المفوضية العليا لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، يعتبر فرض الحصار والذي يهدد حياة المدنيين بحرمانهم من السلع والخدمات الأساسية اللازمة لبقائهم على قيد الحياة، مخالفاً للقانون الدولي الإنساني. إلا إذا كان هناك ضرورة عسكرية تبرر ذلك، ينظر إليه عقاباً جماعياً وتجرمه اتفاقية جنيف الرابعة في المادة 50 والمادة 33 في البروتوكول الثالث، وفقاً للقاعدة رقم 103 من القانون الإنساني العرفي. وقد أشارت أيضاً إلى أن فرض قيود على حركة الأفراد والبضائع التي تهدد حياة المدنيين محظور بموجب القانون الدولي.
نظرًا لذلك ، فإن استهداف معبر رفح الأخير يُعتبر انتهاكًا صريحًا للقانون الدولي ، ويؤدي إلى تراجع الشاحنات المصرية عن الوصول إلى قطاع غزة بسبب الخطر الذي يواجهها عند محاولة عبور المعبر.

تُعَدّ الحصار وممارسات التجويع من الأعمال الشرعية في حالات النزاعات المسلحة والتي تستهدف العسكريين فقط، ومع ذلك، يمنع القانون الدولي الإنساني ممارسات التجويع ضد المدنيين. وعلى الرغم من أهمية أن يتم تضمين هذا المبدأ في معاهدة جنيف، إلا أن صياغته كانت غامضة ما أتاح للأطراف المفروضة للحصار استغلال هذه الفجوة، حيث يحظر النص القانوني التجويع ولكنه لا يمنع الحصار نفسه، كما أنه لا يشمل أيضاً التجويع المستقبلي -والذي ليس مقصوداً- خاصةً عندما يتزامن مع قصف المناطق المحاصرة وأسواق تجارية وبنية تحتية ضرورية لاستمرار الحياة وانقطاع المياه.
وفتحت هذه الفتحة القانونية الباب أمام تفسيرات تشير إلى أن الهدف هو السماح للبعثات الإنسانية بالدخول دون مواجهة ملاحقة قانونية لفعل الحصار نفسه، وذلك لتسهيل اتخاذ أي إجراء عسكري دولي لكسر الحصار. وخصوصًا أن أي دولة تتعرض للحصار يدعي دائمًا أنها تواجه تهديدات عسكرية، ولا يكون هدفها تجويع المدنيين.

وبناءً على ذلك، فإن ذلك يفرض مسؤولية إضافية على القوانين الدولية الإنسانية، حيث يجب الحصول على إذن من أي طرف معني للسماح بإدخال البعثات الإنسانية للمساعدة. إلى جانب ذلك، يصف “دليل أكسفورد” للمساعدة الإنسانية في حالات النزاع المسلح رفض إدخال المساعدات الإنسانية بأنه تصرف سلطوي، في حالة أن الدولة تنتهك التزاماتها تجاه المدنيين أمام القانون الدولي.
في حالة حصار غزة الحالي، نواجه وضوحًا متطرفًا بسبب تصريحات المسئولين الإسرائيليين الصريحة والمتناقضة في نفس الوقت والمستهدفة للمدنيين بدون أي لبس أو اضطراب. وبالتالي، تدين إسرائيل بشكل مباشر ارتكاب جريمة استخدام سلاح الجوع ضد المدنيين بدون تمييز. فالحصار المشروع عسكريًا وقانونيًا وفقًا للقانون الدولي الإنساني، يجب أن يتجه نحو المسلحين في موقع محدد لإجبارهم على الاستسلام، وهذا يختلف تمامًا عن مفهوم جوع المدنيين الذي لا يميز بينهم وبين المسلحين ويهدف إلى القضاء على البشر تمامًا. وهذا ما يتضح بوضوح من تهديدات وتحذيرات المسئولين وتنفيذ هذه التهديدات. لذلك، ما تقوم به إسرائيل في الوقت الحاضر، ووفقًا للقانون الدولي، يشكل بلا أدنى شك إبادة جماعية ضد غزة.

تظهر الصورة المظلمة في قطاع غزة أنها لا تقتصر فقط على عدد القتلى والجرحى، بل هي صورة شاملة لتوقف كامل لمصادر الحياة والبقاء لملايين البشر في أرضهم. ويظهر أن الحصار على غزة أقسى وأكثر تدميرًا من الضربات الصاروخية، لأن الجرحى وغيرهم لن يتمكنوا من الاستمرار في العيش من دون مياه نظيفة أو كهرباء أو طعام. بعد أيام قليلة أو ربما ساعات مع انقطاع التيار الكهربائي وتدمير شركات الاتصالات، ستفقد العالم الاتصال بالمحاصرين في القطاع، ولن يكون لدينا معرفة كافية عن تفاقم التداعيات الإنسانية و الحياة هناك.

عندما يتم اعتبار النزوح حلاً للأشخاص في غزة، فإنهم لا يمتلكون هذا الخيار مثلما هو الحال في حالة نزوح أي شخص في مناطق النزاع المسلح وعودته بعد انتهاء الصراع. يعزى ذلك إلى تمسكهم التاريخي بالدفاع عن قضيتهم من خلال البقاء في أرضهم، لكي لا يتحول الاحتلال إلى استيطان كامل ونهائي دون حق العودة للفلسطينيين. وبالتالي، يصبح نزوح سكان غزة من ذوي الحقوق الإنسانية والقانونية التي لا يمتلكونها أيضًا.
لذا، فإن وجود خروج آمن للأزمة الإنسانية في غزة يعتبر أمرًا ضروريًا ولازمًا أولاً، ومن ثم يتعين إيجاد مخرج للصراع المسلح المستمر بين الجانبين ثانيًا، وأخيرًا فإن تسوية الصراع السياسي الكبير والقديم حول إنهاء الاحتلال واحترام حدود عام 1967 تكتسب أهمية بالغة.

زر الذهاب إلى الأعلى