أقلام

الإدارة الأميركية وفخ التهدئة

بقلم: محمد ياغي

عندما اجتمع الرئيس عباس بالرئيس الأميركي بايدن في تموز الماضي، نُقِلَ عن رئيس المكتب الأميركي للشؤون الفلسطينية جورج نول قوله إن الأخير قال للأول بأن «مطالبه تحتاج الى السيد المسيح صانع المعجزات كي يحققها».
مطالب الرئيس عباس كانت إطلاق عملية سياسية وفق قرارات الشرعية الدولية لتحقيق حل الدولتين، إعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية ومكتب منظمة التحرير في واشنطن، ومطالبة إسرائيل بوقف الاستيطان.
جميع هذه المطالب لا تحتاج لمعجزات السيد المسيح عليه السلام، ولكن الى موقف حازم من واشنطن تجاه إسرائيل لتحقيقها. الرئيس بايدن تجاهل جميع هذه المطالب وتكرم بتقديم مائتي مليون دولار للأونروا ومائة مليون دولار للمستشفيات الفلسطينية في القدس الشرقية، يشكر عليها بالطبع.
لكن الإدارة الأميركية لا تريد الضغط على إسرائيل وهي تقف خلفها في كل ما تقوم به. ولأن إسرائيل أشبه بطفل مدلل فإن الإدارات الأميركية المتعاقبة تقوم بين الحين والآخر بتقديم «النصيحة السياسية» لها حتى لا تؤذي نفسها.
إذا كان هذا هو الحال، فلماذا على الفلسطينيين أن يستمعوا أو أن يتقبلوا مطالب الإدارة الأميركية المتعلقة بالتهدئة.
قبل الحرب في أوكرانيا كان على سُلّم أولويات بايدن إدارة الصراع مع الصين، الملف النووي الإيراني، والوضع الداخلي في الولايات المتحدة — معالجة الانقسام الداخلي الذي تركه الرئيس السابق ترامب، الاستثمار في الطاقة المتجددة، وتجديد البنى التحتية لأميركا.
الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لم يكن على جدول أعماله إلا من جانب يتيم وهو إدارته حتى لا ينفجر في وجهه.
بعد الحرب في أوكرانيا، تغيرت الأولويات قليلا وأصبحت هزيمة روسيا واستنزافها على رأس جدول أعمال الرئيس الأميركي، وما يقتضيه ذلك من تركيز مصادر الدبلوماسية الأميركية لخدمة هذا الهدف بالحفاظ على وحدة دول الناتو والضغط عليها لتقديم المساعدات العسكرية والمالية لأوكرانيا. الصين تم تأجيلها قليلا، والحرب في أوكرانيا فتحت نافذة فرص لأميركا لتعزيز اقتصادها على حساب حلفائها في أوروبا.
إعادة ترتيب أولويات الإدارة الأميركية أبعد نهائيا الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني من الهامش الذي كان موجودا فيه، ولم يبق على لسان الأميركيين وفي سلوكهم غير رغبة وحيدة في موضوع إدارة الصراع وهو الحفاظ على الهدوء في الضفة وغزة.
التهدئة تعطيهم ما يريدون وهو عدم الانشغال بملفات ليست من ضمن أولوياتهم.
من التجارب السابقة مع جميع الإدارات الأميركية منذ اتفاقيات أوسلو، كانت «التهدئة» هي المطلب الأساس لهم لأنها لا تُجبِرهم على وضع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على جدول أعمالهم.
التهدئة بهذا المعنى هي «فَخ» هدفه عدم إشغال الإدارة الأميركية بما لا تريده، وتمكين إسرائيل في نفس الوقت من القيام بكل ما تريده من بناء مستوطنات جديدة وتوسيع القائم منها الى تطبيع علاقاتها مع دول العالمين العربي والإسلامي.
وبهذا المعنى أيضا، فإن مصالح الفلسطينيين السياسية تتحقق إذا رفض الفلسطينيون مطالب الإدارة الأميركية، حتى لو حشدت لهم الأخيرة النظام العربي الرسمي أو بعضه للضغط عليهم لتحقيق «التهدئة».
الأخطر فيما تطلبه الإدارة الاميركية هو رغبتها بتحقيق «التهدئة» عبر الضغط على الفلسطينيين للاقتتال الداخلي، من خلال ما تسميه «تمكين» أجهزة الأمن الفلسطينية من بسط نفوذها على معاقل المقاومة في نابلس وجنين وطولكم وأريحا.
نتساءل هنا كيف يمكن لكل ذلك أن يَخدم القضية الفلسطينية؟ أو لم يتبين أن الإدارات الأميركية المتعاقبة كاذبة وشريك لإسرائيل في جرائمها؟
التزمت السلطة والى الآن بشروط الرباعية الدولية منذ إنشائها العام ٢٠٠٢، فهل توقفت إسرائيل عن سياساتها الاستيطانية مثلا؟
انغمست السلطة حتى النخاع في مشروع بناء مؤسسات الدولة كما طالبت الرباعية، فهل جرت جلسة مفاوضات واحدة جادة لإنهاء الاحتلال منذ عقدين على ذلك؟
نعلم جيدا ان بنية السلطة الفلسطينية لا تسمح لها بمواجهة الاحتلال، ولا أحد لديه القليل من المعرفة بهذه البنية يطلب منها ذلك. في المقابل، لا توجد مصلحة للسلطة نفسها في تحقيق «التهدئة» التي يريدها الأميركيون والإسرائيليون وحلفاؤهم من العرب.
على العكس تماما عدم تدخل السلطة في هذه المسألة يعزز من «قيمتها» السياسية محليا وإقليميا ودوليا.
محليا، السلطة ستكسب احترام الشارع الفلسطيني، وستسترد بعضا من الشرعية التي خسرتها برفض الضغوط عليها للانخراط في صراع مع المقاومة لتحقيق «التهدئة.»
إقليمياً، رفض السلطة للضغوط عليها لتحقيق «التهدئة» سيجبر العرب على تحويل ضغوطهم على الولايات المتحدة وعلى الغرب عموما لإجبار إسرائيل لتقديم تنازلات سياسية بما فيها وقف الاستيطان وسياسة هدم المنازل وحتى بعض تلك المطالب التي ادعى الرئيس بايدن حاجتها لمعجزات السيد المسيح لتحقيقها مثل فتح مكتب المنظمة في واشنطن أو فتح القنصلية الأميركية في القدس.
والأهم أن رفض التجاوب مع الضغوط الإقليمية في مسألة «التهدئة» سيجبر المهرولين من العرب لتطبيع علاقاتهم مع إسرائيل على التوقف، والتفكير قليلا في انعكاسات ذلك عليهم امام شعوبهم التي تتعاطف مع الفلسطينيين ومقاومتهم.
دوليا، «القيمة» السياسية للسلطة سترتفع لأن خيار الولايات المتحدة وحلفائها في ظل العجز عن تحقيق «التهدئة» هو الذهاب للضغط على إسرائيل لفتح مسار سياسي يحقق ما يريدونه وهو «التهدئة»، والسلطة هي الطرف الفلسطيني الوحيد الذي لا يزال متمسكاً بمسألة المفاوضات مع إسرائيل.
باختصار، مشروع التهدئة هو «فخ» للسلطة الفلسطينية لا يجب أن تقع فيه وهو لا يخدم مصالحها فلسطينياً وعربياً ودولياً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى