هل يوجد مخطط لـ فصل مصر عن فلسطين جغرافياً ؟
رام الله – المواطن
تدّعي حكومة نتنياهو أن الحرب التي تشنها على قطاع غزة منذ عملية “طوفان الأقصى” هي حرب وجودية، وأن “إسرائيل” لن تستطيع أن تستعيد شعورها بالأمن إلا إذا نجحت في تفكيك البنية العسكرية لحركة حماس وإسقاط حكمها في قطاع غزة.
ولأن إدارة بايدن تبنت على الفور وجهة النظر الإسرائيلية من دون أي تحفظات، اعتقاداً منها أن بمقدور “إسرائيل” تحقيق أهدافها كاملة خلال فترة وجيزة وبتكلفة معقولة، فقد قررت أن تقدم لها دعماً عسكرياً وسياسياً ومالياً وإعلامياً غير محدود، غير أن هذه الحرب طالت حتى الآن لما يقارب 6 أشهر من دون أن تتمكن “إسرائيل” من تحقيق أي إنجاز يذكر، وأدت تفاعلاتها إلى نتائج غير متوقعة أجبرت إدارة بايدن على إدخال بعض التعديلات إلى مواقفها الأولية.
لقد تسببت هذه الحرب في تدمير قطاع غزة بالكامل، وحولته إلى مكان غير قابل للحياة، وأدت إلى قتل وجرح ما يقارب 120 ألف مدني، معظمهم من الأطفال والنساء، وأصبح ما يقارب 2.5 مليون مواطن، هم كل سكان قطاع غزة، مهددين بالموت جوعاً.
أمام هذه الكوارث والآلام الإنسانية الهائلة، بدأ الرأي العام العالمي يتحرك بقوة لمناصرة القضية الفلسطينية وللتنديد بالمجازر التي يرتكبها “الجيش” الإسرائيلي، بما في ذلك داخل الولايات المتحدة، بل وداخل الحزب الحاكم نفسه، كما قامت دولة جنوب أفريقيا برفع دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية تتهم فيها “إسرائيل” بارتكاب أعمال إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني، وهو ما أقرته المحكمة التي أمرت باتخاذ إجراءات احترازية، غير أن ذلك كله لم يكن كافياً لردع نتنياهو الذي يصر على اجتياح مدينة رفح التي يتكدس فيها حالياً ما يقارب1.4 مليون فلسطيني، معظمهم نزح من شمال ووسط القطاع، وجميعهم لا يجد ما يقتاته بسبب شح المعونات الإنسانية التي يسمح بدخولها إلى القطاع.
يؤكد نتنياهو أن “الجيش” الإسرائيلي قضى على معظم قوات حماس في شمال ووسط القطاع، ولم يتبق سوى قواتها المتمركزة في الجنوب، وتحديداً في منطقة رفح، وبالتالي لن تتمكن “إسرائيل” من تحقيق أهدافها كاملة إلا باجتياح مدينة رفح برياً، غير أن إدارة بايدن بدأت ترفض هذا المنطق. وقد عبرت عن معارضتها العلنية لاجتياح رفح برياً، لأن من شأن خطوة كهذه أن تؤدي حتماً إلى سقوط أعداد هائلة من المدنيين المكدسين في هذه المدينة. لذا، بدأت تطالب نتنياهو بتقديم خطة مفصلة ومقنعة تضمن إيواء المدنيين المشردين وإطعامهم قبل البدء في عملية الاجتياح البري.
ولأن حكومة نتنياهو ليست لديها خطط مقنعة لإيواء هذه الأعداد الهائلة من البشر وإطعامها، وبدأت تظهر دلائل واضحة على أنها تتعمد ممارسة أقصى قدر من الضغوط على كل سكان القطاع لإجبارهم على النزوح إلى مصر، تقترح إدارة بايدن على حكومة نتنياهو أن تصرف النظر عن هذا الاجتياح، وأن تبحث عن خطط بديلة للقضاء على حماس، بل إن جيك سوليفان، مستشار الرئيس بايدن للأمن القومي، صرّح علناً بوجود مثل هذه الخطط البديلة، وعبّر عن استعداد الإدارة الأميركية لمناقشتها تفصيلاً مع الحكومة الإسرائيلية، وهو ما دفع الأخيرة إلى الإعلان عن تشكيل وفدين تم تكليفهما بالتوجه إلى واشنطن لهذا الغرض، أحدهما برئاسة وزير الدفاع يوآف غالانت، والآخر برئاسة وزير الشؤون الاستراتيجيّة رون ديرمر وعضوية رئيس مجلس الأمن القومي تساهي هانغبي.
تجدر الإشارة هنا إلى أن خطط حكومة نتنياهو لاجتياح منطقة رفح برياً تشمل أيضاً إعادة احتلال الشريط الحدودي الذي يفصل بين مصر وقطاع غزة، وهو شريط يمتد من البحر المتوسط حتى معبر كرم أبو سالم، بطول 14 كيلومتراً، ويطلق عليه “محور فيلادلفيا” أو “محور صلاح الدين”، فنتنياهو يدعي أن حماس تحصل على إمداداتها من السلاح عبر أنفاق عميقة تم حفرها على جانبي هذا الشريط الحدودي.
ولأن هدفه المعلن من الحرب الوحشية التي يشنها حالياً على قطاع غزة هو نزع سلاح حماس، يعتقد نتنياهو أن هذا الهدف لن يتحقق بالكامل، ولن يضمن عدم استمرار تدفق السلاح على حماس في المستقبل إلا إذا تمكن “الجيش” الإسرائيلي من إحكام سيطرته الدائمة على الشريط الحدودي بين مصر وقطاع غزة، غير أن هذا الادعاء لا يمكن أن يكون صحيحاً؛ فمن المعروف أن الرئيس السيسي أمر، عقب توليه مقاليد الحكم في مصر مباشرة، بتدمير جميع الأنفاق التي كانت موجودة على الناحية المصرية من الحدود مع قطاع غزة، بل وتم بناء بناء حائط فولاذي وملء الخنادق القديمة بمياه البحر.
ولم يكتفِ الرئيس السيسي بهذه الخطوات التي اعتبرها إجراءات ضرورية لمكافحة الإرهاب، إنما أمر أيضاً بهدم أعداد كبيرة من المنازل القريبة من الشريط وتهجير أعداد كبيرة من سكان مدينة رفح المصرية، بدعوى منع الجماعات الإرهابية التي كانت تقوم بعمليات داخل سيناء من الهروب إلى القطاع عقب قيامها بهذه العمليات.
لذا، فالأرجح أن يكون الدافع الرئيسي وراء إصرار نتنياهو على السيطرة على الشريط الحدودي الفاصل بين مصر وقطاع غزة هو تسهيل خططه الرامية إلى إفراغ القطاع من سكانه، بإجبارهم على النزوح القسري إلى سيناء.
وحتى إذا فشل نتنياهو في وضع خطط التهجير القسري للفلسطينيين موضع التنفيذ، فمن الواضح أن احتلال “إسرائيل” للشريط الحدودي بين مصر وقطاع غزة سيساعدها على إغلاق معبر رفح كلياً من الناحية الفلسطينية، وبالتالي سيمكنها من السيطرة على جميع المعابر البرية وحرمان الفلسطينيين المقيمين في غزة كلياً من أي تواصل بري مباشر مع العالم الخارجي، ما يعني أن تصبح “إسرائيل” في وضع يمكنها من التحكم في دخول وخروج جميع الفلسطينيين المقيمين بالقطاع، وبالتالي منعهم من مغادرة القطاع إلا عبر البحر المراقب إسرائيلياً وأميركياً.
إن إصرار الكيان الصهيوني على الإقدام على هذه الخطوة، أي على احتلال محور فيلادلفيا، رغم وجود مذكرة تفاهم موقعة مع مصر حول هذا الموضوع (تم إبرامها عقب الانسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة عام 2005) يؤكد أن هذا الكيان لم يعد حريصاً حتى على احترام اتفاقياته المبرمة مع مصر، ربما لاعتقاده بأن مصر لن تحرك ساكناً بسبب ظروفها وأوضاعها الاقتصادية الصعبة وستبدي تفهماً دائماً لاحتياجاته الأمنية.
أكثر ما يثير القلق هنا هو الموقف الأميركي من هذا الموضوع؛ ففي إطار سعيها لإقناع نتنياهو بإمكانية القضاء على حماس باستخدام خطط أخرى غير الاجتياح البري لمنطقة رفح، يبدو أنَّ إدارة بايدن ليس لديها مانع من قيام “إسرائيل” باحتلال الشريط الحدودي بين مصر وفلسطين، على الأقل خلال الفترة التي تتطلبها عملية القضاء على حماس من ناحية، وربما أيضاً خلال الفترة الانتقالية اللازمة لتأسيس سلطة بديلة في مرحلة “ما بعد حماس”.
كشفت بعض وسائل الإعلام مؤخراً الملامح العامة لخطة أميركية بديلة لاجتياح رفح، تتمحور حول السماح للجيش الإسرائيلي بالسيطرة على محور فيلادلفيا، وبالتالي تمكينه من إغلاق المعابر البرية وحصرها بالممر البحري المراقب إسرائيلياً وأميركياً، وفي الوقت نفسه تمكينه من مواصلة حربه لتدمير قدرات حماس القتالية، ولكن من خلال عمليات جراحية أو عمليات اغتيال للقادة، على أن تضمن الولايات المتحدة مد “إسرائيل” بالتمويل وبالغطاء السياسي اللازمين لضمان نجاح هذه الخطة.
ولأن نتنياهو لا يبدو مقتنعاً بالخطط الأميركية البديلة، وما زال يصر على اجتياح مدينة رفح، يبدو أن إدارة بايدن قررت أن تمارس عليه ضغوطاً محسوبة عليه، وهو ما قد يستشف من امتناعها عن التصويت على مشروع قرار لمجلس الأمن يطالب بوقف فوري لإطلاق النار، ما أدى إلى تبنيه وصدور القرار رقم 2728 الذي يطالب، وذلك لأول مرة منذ اندلاع الأزمة في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، بوقف فوري لإطلاق النار.
صحيح أن نتنياهو رد بغضب وتحدٍ على هذا الموقف الأميركي الجديد، إذ أصدر أوامره للوفد الذي كان مقرراً أن يرأسه كل من رون ديرمر، وزير الشؤون الاستراتيجيّة، وتساهي هانغبي، رئيس مجلس الأمن القومي، بعدم التوجه إلى واشنطن، غير أن قرار مجلس الأمن لن يغير كثيراً من المعطيات الأساسية للأزمة، ربما باستثناء حجم المعونات الإنسانية الذي قد يسمح بدخوله للقطاع، فهذا قرار يتعلق بوقف مؤقت لإطلاق النار (أي خلال الأيام المتبقية من شهر رمضان) ويربط عضوياً بين وقف إطلاق النار وتبادل “الرهائن”، ومن ثم يتوقع ألا يتقيد به نتنياهو.
ومع ذلك، يمكن القول إن الموقف الأميركي الأخير في مجلس الأمن يرسل إشارة قوية إلى نتنياهو، مفادها أن إدارة بايدن لن توافق مطلقاً على الاجتياح البري لرفح، وأنه إذا ركب رأسه وأقدم على هذا الاجتياح، فقد يترتب عليه إجراءات تصعيدية لن تكون بالقطع في مصلحة نتنياهو الذي يواجه وضعاً داخلياً شديد التعقيد ومليئاً بالمخاطر بالنسبة إليه.
في جميع الأحوال، وإذا ثبتت صحة التقارير الإعلامية التي تفيد بأنَّ الخطط الأميركية البديلة التي تقترحها إدارة بايدن لمنع نتنياهو من الاجتياح البري لمدينة رفح، والتي أشرنا إليها سابقاً، تنطوي على موافقة أميركية ضمنيه بتمكين نتنياهو من السيطرة على “محور فيلادلفيا”، فسيكون بمقدوره السيطرة على هذا المحور، سواء قبل بالخطط الأميركية البديلة أو لم يقبل.
أمام هذه المحطات التي تستهدف عزل مصر عن عالمها العربي، بما في ذلك فصلها جغرافياً عن فلسطين، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف ستتصرف مصر؟ هل تظل مكتفية بدور المتفرج أم تنتهز الفرصة للتخلص من الأعباء الواقعة عليها بموجب معاهدة السلام، وخصوصاً ما يتعلق منها بتحويل معظم سيناء إلى منطقة منزوعة السلاح؟