أقلام

عن مسلسل «أمّ الياسمين»

ريما كتانة نزال

تابع كثير من الفلسطينيين في شهر رمضان الماضي العمل الدرامي التلفزيوني المحلّي الذي حمل اسم “أمّ الياسمين”. وتدور أحداث المسلسل حول الحياة النابلسية والعادات والتقاليد المميزة في المدينة ضمن السياق والخصوصية الفلسطينية، متناولاً الفترة التاريخية الواقعة ما بين عامَي 1929 و1934 بينما كانت فلسطين تقع تحت الاحتلال البريطاني، وهي فترة حساسة وخطيرة مهّدت لمؤامرة النكبة وأحداثها المأساوية التي ما زال كل شعبنا يعاني من آثارها.
تدور أحداث المسلسل على امتداد تسعٍ وعشرين حلقة طيلة أيام الشهر الفضيل، والمسلسل من إخراج بشار النجار، وكتب النص طاهر باكير ووضع السيناريو خاطر أبو عيشة، بمشاركة حوالى مئة ممثل وممثلة.

استقطب العمل الدرامي اهتمام المجتمع الفلسطيني متجاوزاً حالة الاهتمام المحلي الداخلي، باجتذابه الفلسطينيين، خاصة النابلسيّين الذين يعيشون في بلدان الشتات والاغتراب. كما استقطب المسلسل شرائح واسعة من المهتمين بوجود دراما فلسطينية، بمن فيهم الخصوم الذين سارعوا إلى تناول المسلسل بالنقد والتشريح الذي تميز بعضه بالقسوة والحدّة وخرج عن نطاق الموضوعية قياساً بالمعايير والموارد الشحيحة المتاحة، وهو ما أوحى بأن النقد استهدف الفكرة من أساسها والعاملين عليها، أكثر ممّا ركز على العمل الملموس بتفاصيله وأحداثه وفنيّاته وأثره الواقعي.

لا شك في أن المسلسل يشكو من بعض النواقص، لا جدال في ذلك، حيث تباينت مهارة الأداء والقدرة على الإقناع بين كادر متمرّس وممثلين هواة يمثل بعضهم للمرة الأولى، كما وقع في بعض السطحية بمواقع أخرى، إضافة إلى إغفاله دور المرأة الوطني الذي كان ناهضاً وجليّاً في تلك الآونة مع بداية تأسيس البنى النسائية المنظمة الموثقة على كل حال..عدا هفوات أخرى، لكنها جميعها لم تمنع تسجيل العمل للنجاح الباهر رغم التحديات التي واجهته، ما لا بد أن يدفع المستوى الرسمي لإيلاء الاهتمام بصناعة الدراما، أولاً، كونها وسيلة من وسائل التوعية التي تصل الجمهور بسلاسة ويسر ومتعة.

وعليه، لا جدال في أن الحدث الفني يتحول منذ لحظة صدوره من ملكية صانعيه ليصبح ملكاً للمستهلكين من الجمهور والنقاد، وأي عمل فني بعد عرضه لا بد أن تتم مراجعته وتقييمه ونقده، مع التأكيد على أن ليس ثمة أي عمل فني مهما علا شأنه وأجاد صانعوه يستطيع الحصول على رضا جميع طبقات المجتمع وشرائحه، فضلاً عن فئة النقاد والمهتمين وبعضهم من المنافسين الذين لن يوفروا ملاحظاتهم، بل إن جزءاً مهماً من عملهم يقوم على رصد السلبيات وإبرازها.

كما أن تعدّد الآراء والميول والأهواء، وتنوع الزوايا التي ينظر منها النقاد، يجعلان أي عمل عرضة لمزيد من النقد والتحليل والتشريح، عدا أن النقد ضرورة واحتياج عام يغطي بضروراته جميع الصعد التي تهم المجتمع وتؤثر به، وغيابه يقود إلى الجمود وتكرار الأخطاء واستمرارها، فليس من قداسة تمنح مجاناً للشكل عندما يتناول حقائق التاريخ بأبعادها الاجتماعية، ولا يمكن الوقوف على الحياد في حضور معايير العلم والتوثيق والمعلومات والواقع والتاريخ الشفوي، فكيف عندما يتعلق الأمر بالمجتمع الفلسطيني؟
لكن الانتقادات التي تتجاوز حدود النقد الموضوعي، والذي يصطلح على تسميته النقد البنّاء واستهدافاته، تقود إلى أثر عكسي وسلبي، وتطْرح البيئة العامة المحيطة بالعمل، والتي لا نختلف على أنها تشهد حدة في التنافس والصراع بشكل مبالغ فيه دون أن تجد ما يحد من تصاعدها المفتعل، وإعادتها إلى السكة الموضوعية، وليس ثمة جديد في القول: إننا أمام حالة من الاصطفافات العدائية وغير الموضوعية التي يشوبها بعض مشاعر الكراهية من دون بذل أي جهد لإخفائها.
وترتفع وتيرة هذه المشاعر السلبية أحياناً بخط بياني متصاعد، لكون العوامل المؤثرة بها تزداد تفاقماً من دون محاولات كبحها والحد من انتشار الظاهرة القبيحة، لتجعلها تهدد بمزيد من الصراعات الخطيرة السلم الأهلي في أكثر من مجال وحقل.

لا بد من التذكير، أن الثقافة تعبّر عن البنية الفوقية كمرآة عاكسة للبنية التحتية التي تلعب الدور الرئيس في إيجاد الفضاء الواسع لنمو الثقافة الإنسانية والديمقراطية وعوامل التغيير، لأن البنية التحتية تمثل القاعدة المادية التي تنطلق منها الآداب والفنون وتنشأ عنها الأفكار والثقافات والقيم والمبادئ.
وأي تناول للأعمال الفنية في مجتمعنا الفلسطيني ينبغي أن يلحظ خصائص مجتمعنا وحاجتنا إلى تعزيز روايتنا والدفاع عن هويتنا الوطنية، خاصة في ظل هذه الظروف الصعبة التي تشهد أشكالاً من التفكك والتصدع بسبب الصراع الداخلي والانقسام السياسي، مؤدية إلى خلق مناخات مواتية للكراهية والعبثية والفوضى.
لا يستهدف المقال الوعظ والإرشاد، لكنه يطرح المسؤوليات الجزئية من أجل احتضان الأعمال الدرامية المتعلقة بالتاريخ الوطني كون الحقيقة الفلسطينية تتعرض للمخاطر والتهديد، مخاوف الضياع والتبديد والتزوير من قبل الاحتلال، لكنها مهددة أيضاً على أيادينا، بسبب الصراع الداخلي واهتزاز البنية التحتية للثقافة، وضبابية المسؤوليات الاجتماعية، وغياب الحوار المنظم حول القضايا الخلافية، وبالتالي فإن مسؤولية النقد جسيمة وثقيلة تتجاوز الموقف من الأشخاص والأفراد، لتصبح جزءاً من مسؤولية الحرص على البناء الوطني وتماسك المجتمع، ومواصلة مسيرة الحرية والاستقلال.

زر الذهاب إلى الأعلى