أقلام

ديمقراطية مع التمييز العنصري؟! رجب أبو سرية

في معرض تعليقه على محاولة حكومة التطرف اليميني الإسرائيلية، تغيير نظام القضاء، لجهة سيطرة الحكومة على المحكمة العليا، قال الرئيس الأميركي جو بايدن، إن ما يحدد العلاقة بين بلاده وإسرائيل هي القيم الديمقراطية، والأمر نفسه عاد وأكده وزير خارجيته أنتوني بلينكن، فيما كان السفير الأميركي في إسرائيل توماس نايدس ــ وعلى إثر تظاهر المئات من أنصار «الليكود» نفسه ضد ذلك الإجراء، يوم السبت الماضي، على ما يبدو ــ قد أفصح عن أنه نصح بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية بكبح المكابح، فيما يخص سعيه لتعديل النظام القضائي، وأكد هو أيضا على أن جوهر العلاقة مع إسرائيل هي القيم الديمقراطية التي تجمعهما، وهي التي تحدد موقف واشنطن في مجلس الأمن، حين يتعلق الأمر بإسرائيل.

والحقيقة أن الولايات المتحدة، وطوال عقود خلت، وهي تتغنى بحقوق الإنسان وبالديمقراطية، لدرجة أنها شنت حروبا، وأسقطت أنظمة، تحت يافطة هذه الذريعة، لكن مفهوم الديمقراطية نفسه، لا يتوقف عنده كثيرا المنطق الأميركي، والذي يبدو أن جوهره، أقرب للمفهوم الأثيني، أي اقتصار الديمقراطية على بعض الناس، وحجبها عن آخرين، أو أنها تخص فقط مستوى من إفراد المجتمع، كما كان الحال في اليونان القديمة، حين كان انتخاب مجلس الشيوخ مقتصرا على طبقة النبلاء، وكان مجلس الشيوخ أي البرلمان، يجاور الإمبراطور، الذي يظفر بالمنصب بقوة عضلاته، والنظام الديمقراطي الأميركي يبدو أنه أكثر الأنظمة السياسية الغربية، لهذا الشكل الديمقراطي، من حيث هو نظام رئاسي، للرئيس الفرد صلاحيات شبه مطلقة، فقط يكبح جماح تحوله لنظام مستبد وجود الكونغرس، حيث يفرض الدستور على الرئيس الحصول على موافقة الكونغرس فيما يخص العديد من القرارات المهمة التي يصدرها.

لكن القيم الديمقراطية الأميركية تهز أكتافها حين يتعلق الأمر بمن هم خارج حدود الولايات المتحدة، أم من هم خارج المجتمع الأميركي، ولا ترى القيم الديمقراطية الأميركية أي غضاضة في إجراء الانتخابات الرئاسية، وحتى البرلمانية، كذلك انتخابات حكام الولايات ومجالسها النيابية المحلية، بالتزامن مع شن الحروب على الدول خارج حدود أميركا، ولا أي مشكلة في التدخل بإسقاط أنظمة حكم لمجتمعات أخرى، أي التصرف نيابة عن شعوب الغير، وهذه النظرة في جوهرها عنصرية، لأنها في أحسن أحوالها ترى الآخرين قاصرين عن التحكم بمصيرهم، تماما كما يرى الآباء أطفالهم الذين لم يبلغوا بعد سن الرشد، وأميركا تغنت كثيرا في السابق بالقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، حين كان الأمر يتعلق بأنظمة حكم ليست على ود معها، أما فيما يخص حلفاءها أو التابعين لها، فإنها لا تنبس ببنت شفة عن أنظمة حكم مستبدة تماما، تستند لحكم الفرد، الملكي الوراثي، أو العسكري الانقلابي، والأمثلة هنا لا حصر، خاصة هنا في الشرق الأوسط.

الأبعد من ذلك أن السفير الأميركي، لا يرى مشكلة في ممارسة إسرائيل بجيشها وحرس حدودها ومستوطنيها القتل اليومي، ولا أصلا في استمرار إسرائيل باحتلال أرض الغير، والسيطرة على شعب آخر، أي تناقض مع قيمه الديمقراطية التي يدعي بأنه يتشاركها مع إسرائيل، وليس هناك من آدمي في هذا الكون، يمكنه أن يقتنع، اليوم، وبعد أكثر من 55 سنة، بأن إسرائيل دولة الاحتلال، التي ترتكب منذ إنشائها قبل 75 سنة، كل جرائم الحرب، وكل أشكال القهر والسطو، وتشهد بداخلها التحول نحو اليمين المتطرف، وتقر بالقانون والممارسة نظام الفصل العنصري، بأنها دولة ديمقراطية، والديمقراطية ليست قصرا على مجرد إجراء الانتخابات العامة، التي تديرها مراكز المال والنخبة العسكرية، التي باتت هي طبقة نبلاء العصر الحديث.

فالديمقراطية أعمق وأبعد من ذلك بكثير، لكن يبدو أن أميركا ورغم كل التقدم التكنولوجي الذي يشهده العالم، ما زالت على الصعيد الاجتماعي والثقافي تشجع الثقافة السطحية في أوساط عامة الناس، حيث لا تنتج أميركا غير ما هو غث وغبي من سينما «أكشن» ومن ألعاب «مصارعة»، وأهم القيم التي ترسلها للداخل والخارج معا، هي قيم الاستهلاك، وقيمة المال، وتبرير فعل كل شيء في سبيل الحصول عليه.

وما زالت أميركا تصر على علاقتها الخاصة مع إسرائيل، رغم أن إسرائيل دولة احتلال لأرض الغير، ورغم أن إسرائيل من داخلها تحولت لدولة عنصرية، والى دولة يمين متطرف، طوت صفحة التداول السياسي، ولم يعد من منافس داخلي سياسي لليمين، بعد أن تبدد اليسار، وها هي تسعى لإغلاق ملف كونها دولة مدنية، وهي لم تعد دولة لكل مواطنيها، كل ذلك حدث بفعل الدعم الأميركي لها وعدم نصحها النصح الحقيقي الذي يرى ما هو أبعد من الأنف، ولو كانت أميركا مسكونة بقيم ديمقراطية حقيقية لرأت في الاحتلال السبب الحقيقي لتحول إسرائيل من دولة «ديمقراطية» إلى دولة فصل عنصري، لن يكون القضاء آخر ضحاياها، ما دام الشعب الفلسطيني كان أول ضحاياها، بل سيشمل ذلك، مواطنيها ممن هم من غير المستوطنين، أي البلاط الذي يعبد ويؤبد الاحتلال، وكذلك من غير المتدينين المتطرفين الذين لا يحترمون غيرهم من المؤمنين.

يمكن القول بكل ثقة، إن السياسة الأميركية تجاه إسرائيل، منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، أي منذ إعلان قيامها، قد أفسدت إسرائيل، وجعلت منها دولة منبوذة، لن تنفي عنها هذه الصفة ألف اتفاقية أبراهام، ولن تنجح كل القوة التي في الدنيا في فرضها على الشرق الأوسط، وهي بهذه الصفة، وبهذه التركيبة، وما على الولايات المتحدة، إلا أن تقوم بمراجعة حقيقية، لنظامها هي أولا، ثم لما تدعيه من قيم ديمقراطية، على أساس المبدأ الذي يقول، إن حريتك تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين، ولا حرية ولا ديمقراطية لشعب يقهر بالقوة العسكرية والمالية شعبا آخر.
والحقيقة أيضا، بأن ما يدور داخل الولايات المتحدة يهم العالم بأسره، نظرا إلى المدى الذي تتحكم فيه واشنطن بالعالم، على كل الأصعدة، وهنا لا بد من ظهور من يتساءل من داخل أميركا، عن السبب الذي يجعل دولة كبرى، بل ما زالت هي الدولة الأهم التي تقود العالم، لأن تجلس إلى جوار إسرائيل وتقف موقف الأقلية في مئات القرارات التي اتخذتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، بما يعني بأنها ــ أي الولايات المتحدة، لا تحترم إرادة الأغلبية من البشر، لأنه ليس من الديمقراطية ولا من قيمها، أن تتحكم خمس دول فقط ــ يكفي لواحدة منها أن ترفع يدها بحق النقض/ الفيتو ــ في سكان الكرة الأرضة، ممثلين بأكثر من 190 دولة أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة.
لقد آن الأوان، لأن تراجع الولايات المتحدة نفسها فيما يخص ما تدعيه من قيم ديمقراطية، وإذا كان نظامها السياسي شأن شعبها، فإن سياساتها تجاه الدول والشعوب، خارج حدودها، ليست شأنا خاصا بنظام حكمها، ولا حتى بشعبها، فمن يعيش في هذا الكون عليه أن يحترم وجود الآخرين، وشعوب العالم كلها مجتمعة هي من يقرر القيم الإنسانية معا، ومن يحدد جوهر النظام العالمي، لكن تحكم أميركا منفردة ووحيدة بمقاليد النظام العالمي، يجعل من قيمها الديمقراطية «سكر خفيف»، تماما كما يحول الاحتلال الإسرائيلي دون إسرائيل والديمقراطية، وحتى نقتنع بقيم ديمقراطية حقيقية، عالمية وإنسانية وليس أميركية، على أميركا أولا أن تكف عن الاقتناع بحقها في الاستمرار بالسيطرة على النظام العالمي منفردة، وعلى إسرائيل ثانيا، أن تضع حدا لاحتلالها لأرض دولة فلسطين، وإلا ستواجه الدولتان بأسرع مما تتوقعان، من يفرض عليهما، ما تعجزان هما عن فعله أو ما لا تحمد عقباه في نفسيهما.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى