أول وجـبـة إفـطـار
الكاتب: عبد الغني سلامة
فندق الميلينيوم، رام الله، الأحد 26-1- 2024 الساعة 7.45 صباحاً، نهض الأسير المحرر ياسر أبو بكر من نومه على اتصالي لأخبره أني أنتظره في «الريسبشن».. خلال خمس دقائق خرج من المصعد بخطى نشيطة وعلى وجهه المتعب ابتسامة صافية، تعانقنا بالدموع، ودون أي كلمة لدقائق طويلة.
جاء موظف «الريسبشن» (شقيقه محكوم مؤبد وغير مشمول بالصفقة) وصافحه بحرارة، وقال: جميع ضيوف ياسر مدعوون على حساب الفندق. فتوجهنا إلى المطعم لتناول الإفطار، قبل أن تنضم إلينا عائلته، وقبل أن يتوافد أصدقاؤه ومحبوه.
كان في ذهن ياسر عشرات القصص والصور والقضايا تتداخل وتتشابك وتتصارع على نحو عنيف.. كان هذا واضحاً من عينيه ومن شروده، ومحاولاته التركيز واستيعاب اللحظة. أما أنا فكنتُ منشغلاً بتفريغ حمولات الشوق، والتقاط اللحظة لتوثيقها ومحاولة فهم كيف سيتصرف إنسان في أول صباح له بعد 23 سنة من الأسر.
كيف سيرى طلعة الشمس بعد سنوات طويلة من الغروب؟ ما هو شعوره حين استيقظ من تلقاء نفسه، بعد أن ظل يستيقظ على صرخات السجان وشتائمه؟ ماذا يعني أن تكون حراً، فتنهض وقتما تشاء، وتذهب إلى أي مكان تريده، أو تلغي مشواراً ما، وكل هذا بمحض إرادتك. كيف سيكون طعم أول فنجان قهوة؟ هل اشتاق لفيروز؟ هل بدأ يشعر بالفرق بين «بُرش» السجن والفراش الوثير.. بين مرحاض السجن وحمّام الفندق.. بين الخوف والأمان.. بين ليالي القهر والوحدة والسهر بين الأهل والأولاد؟
عشرات الأسئلة كنت أود طرحها على ياسر، أو أن أرى إجاباتها من خلال سلوكه العفوي، ومن لغة جسده.
شجعتُه على اختيار أشهى المأكولات ووضعها في طبقه، كان متردداً وخجلاً.. ولما بدأنا الطعام كان مرتبكاً، يأكل ببطء ودون شهية. وقال بالحرف وبصوت متحشرج: إخواني في الأسر حالياً يتضورون جوعاً.
هل نمتَ جيداً؟ سألته فأجاب: عند الفجر سمعت باب الغرفة المجاورة يفتح فنهضت فزعاً وبدّلت ثيابي على الفور، ولبست حذائي ووقفت أنتظر بقلق. وقفت لدقائق طويلة حتى أقنع نفسي أن من بالغرفة المجاورة مجرد نزلاء، وليسوا من الجيش ولا من السجانين، وبإمكاني العودة للنوم باطمئنان.
كيف تشعر الآن؟ سألته، فأجاب: لأول مرة منذ سنوات بعيدة أرى جسدي في المرآة، وقد أشفقت على نفسي، وكأني أرى شخصاً آخر، شخص نجا من مجاعة.. هيكل عظمي يغطيه جلد مليء بالندوب وآثار الضرب ومواضع العصي التي طالما انهالت عليه.. وفهمت حينها نظرات الجنود الغامضة حين كانوا يطلبون مني نزع ملابسي: نظرات تشفٍّ وسخرية.
ثم يضيف: نقلوني ليلة أمس إلى المستشفى الاستشاري لإجراء فحوصات، مع أنها كانت واضحة للعيان: جفاف في الجلد والوجه، نقص حاد في كل الفيتامينات والعناصر المعدنية، فقر دم، هزال، ضغط.
بعد نحو نصف ساعة، بدأ الأصدقاء يتوافدون لتهنئته بالسلامة، حضر العشرات من المحبين والمتضامنين ومن أعضاء اللجنة المركزية لحركة «فتح» والفصائل، ومن قيادات السلطة، حتى الرئيس أبو مازن اتصل به مهنئاً، وقد تلقى عشرات الاتصالات من داخل الوطن، ومن العواصم البعيدة.. بدأ وجهه يتعافى، وعيناه الغائرتان تستعيدان بريقهما، وأخذ يتحدث بطلاقة ويجيب عن أسئلة الصحافيين.. وكان أول ما قاله: أشعر بالخجل من دماء أطفال غزة، فقد كانت ثمناً لحريتنا، سأظل ممتناً لغزة وأهلها وشهدائها أبد الدهر.. وأشدد على منع أي مظاهر احتفالية احتراماً لمشاعر الأمهات الثكلى، وتواضعاً في حضرة شهداء غزة.
حين تم اعتقاله في بداية الانتفاضة، كانت الميزة الأبرز للهاتف المحمول «ضوء اللوكس»، في هذه السنوات الطويلة طرأت تغيرات هائلة ليس في تقنيات الهاتف المحمول وحسب، بل وفي كل مناحي الحياة وعوالم السياسة.. كان ياسر مغيباً عنها، رغم أنه ظل مواظباً على القراءة والمتابعة، وأصدر عدة كتب ودراسات، حتى أنه يتهيأ لنيل شهادة الدكتوراه.. لا يعرف شيئاً عن وسائل التواصل الاجتماعي، فأريته صفحته على «فيسبوك»، التي يديرها نجله عاهد، الذي تركه طفلاً رضيعاً وعاد إليه وقد غدا شاباً يافعاً.. مفتخراً بوالده.
كان ياسر يتواصل مع أصدقائه من السجن عبر «جوال» مهرب، وحين دخل عامه العشرين في الأسر سألته: كيف تشعر وقد ضاع من عمرك عقدان كاملان؟ أجاب بتنهيدة طويلة حارة شعرت أنها حرقت جزءاً من كبده.. ولا أظن أن بوسع أي لغة الإجابة عن مثل هذا السؤال.
بعد اندلاع الحرب العدوانية، شنت إدارة السجون حملات متواصلة على الأسرى حتى صادرت كل هواتفهم، وجردتهم من كل حقوقهم، ومن كل إنجازاتهم التي حققوها عبر عقود من النضال والإضرابات والشهداء.. حملات شبه يومية من الضرب والتنكيل والإهانة والإذلال والتعذيب الوحشي الممنهج، استشهد العشرات، والمئات تكسرت أضلاعهم.. كانت خمسة عشر شهراً من الجحيم.. التجويع سياسة ممنهجة، طوال تلك المدة ظل الجوع حاضراً وبكل قسوته.. كانوا محرومين من كل شيء، ومنقطعين تماماً عن العالم الخارجي، حتى الكهرباء يطفئونها انتقاماً منهم، بين كل شهر وآخر بالكاد يسمعون خبراً مقتضباً عما يجري في الوطن.
يضيف ياسر: جلبونا إلى سجن «عوفر» الأربعاء الماضي، وعلى مدى ثلاثة أيام كنا نتعرض لضرب مبرح، ودون مبرر، سوى الحقد الأعمى.. بعضنا تكسرت أطرافهم.
10400 أسير ما زالوا في سجون الاحتلال، أحوالهم في غاية البؤس، منهم 561 محكومون مدى الحياة، و432 أسيراً قضوا أكثر من عشرين سنة.. سيتحرر في هذه الصفقة نحو 1800 أسير، منهم مائتا محكوم مؤبد.. أما عدد أسرى غزة فغير معروف، لأنهم يقبعون في سجون سرية أشد دموية من «غوانتانامو»، تشهد أشكال تعذيب مشينة تصل حد الموت، ومعاملة تحط بالكرامة الإنسانية، وحرماناً من الحد الأدنى من الحقوق الأساسية.
بعد أربع ساعات متصلة، ودعنا ياسر وعائلته وقد استقلوا سيارة إسعاف لتوصلهم إلى نابلس. ستُتاح له فرصة مشاهدة أجزاء عزيزة من الوطن: سيكحل عينيه بمشاهد الأشجار، والعصافير، والقرى، والغيوم، والناس.. وسيرى أيضاً الحواجز والمستوطنات، وحياتنا التي صارت سجناً كبيراً.
سيحتاج الأسرى المحررون وقتاً طويلاً حتى يندمجوا في الحياة، سيتذوقون على مهل طعم البدايات، بدايات عمر جديد.. نرجو لهم حيوات سعيدة وهانئة.. ولكل أسرانا الأبطال الحرية والمجد وكل الحب والوفاء.