لحظة الانتشاء وغرور القوة العمياء.. فائض القوة هل يتحول إلى ضربة مرتدة؟!
رام الله – المواطن
الضربات التي نجحت دولة الاحتلال الإسرائيلي في توجيهها لحزب الله في الآونة الأخيرة، والتي كان آخرها وأهمها تمكّنها من اغتيال أمين عام الحزب حسن نصر الله، خلقت حالةً من نشوة النصر في أوساط المحتلين، وجعلتهم يعتقدون أنهم أصابوا قوة حزب الله في مقتل، وبالتالي غياب القوة التي كانت تردعهم وتمنعهم من تنفيذ مخططاتهم العدوانية بحق لبنان ومقدراته.
فقبل أن تتضح مسارات الأحداث في لبنان، وقبل اتضاح كيف سيستعيد حزب الله ترتيب أوضاعه، بما في ذلك اختيار أمين عام جديد، وارتباط ذلك بميدان القتال، سارع وزير الطاقة الإسرائيلي إيلي كوهين إلى التلويح باحتمال إلغاء اتفاق الغاز الموقع مع لبنان برعاية أمريكية، واصفاً الاتفاق بـ”الفاضح”، مؤكداً أنه يبحث عن ثغرة لإلغائه.
واعتبر كوهين أن اتفاق الغاز الذي وقعته إسرائيل مع لبنان، في ظل حكومة التغيير التي تناوب على رئاستها نفتالي بينيت ويائير لبيد، “كان خطأ منذ البداية، وسنحرص على إصلاحه”.
وكان لبنان وإسرائيل وقّعا أواخر العام 2022 على اتفاق لترسيم الحدود البحرية بين البلدين بعد مفاوضات غير مباشرة استمرت عامين بوساطة أمريكية بشأن منطقة غنية بالنفط والغاز الطبيعي في البحر المتوسط تبلغ مساحتها 860 كيلومتراً مربعاً.
إعادة التفاوض على ترسيم الحدود البحرية
وتناول د. حسن مرهج، الخبير بشؤون الشرق الأوسط، مستقبل اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، مؤكداً أن إسرائيل قد تتجه نحو إلغاء هذا الاتفاق الذي تم توقيعه في أكتوبر 2022، تحت رعاية أمريكية. الاتفاق سمح للبنان باستخراج الغاز من حقل قانا، في حين استمرت إسرائيل في استخراج الغاز من حقل “كاريش”.
وأوضح مرهج لـ”صحيفة القدس” أن “إسرائيل ما زالت تنتج الغاز بكميات كبيرة من حقل “كاريش”، في حين أعلنت شركة “توتال” بعد عمليات التنقيب في الحقول اللبنانية أنه لا يوجد غاز كافٍ في تلك المناطق. وهذا الإعلان أدى إلى توقف أي نشاط يتعلق بالتنقيب أو استخراج الغاز في لبنان، ما جعل الإسرائيليين يرون أن التوصل إلى هذا الاتفاق جاء تحت تهديد من المقاومة اللبنانية، ويعززون موقفهم في التنصل منه أو إعادة التفاوض بشأنه بشروط جديدة”.
وأشار إلى أن العديد من أعضاء الكونغرس الأمريكي يشجعون إسرائيل على الخروج من هذا الاتفاق، خاصة وأن الاتفاق النووي مع إيران، الذي رعته الولايات المتحدة في 2015، انسحب منه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في 2018، دون أن تتمكن الدول الأوروبية من إجبار واشنطن على الالتزام به. ويعني هذا، حسب مرهج، أن إسرائيل قد تجد دعماً أمريكياً مماثلًا لتنصلها من اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع لبنان، مستشهداً أيضاً بتجاهل إسرائيل لاتفاق أوسلو الذي تحول إلى “اتفاق ميت” بسبب الانتهاكات الإسرائيلية المتواصلة.
ضربات إسرائيل الأخيرة تعزز موقفها التفاوضي
وتابع: إن العمليات العسكرية الإسرائيلية الأخيرة، بما في ذلك اغتيال عدد من قادة حزب الله وعلى رأسهم الأمين العام للحزب حسن نصرالله، قد تجعل إسرائيل أكثر جرأة في السعي إلى إعادة التفاوض على ترسيم الحدود البحرية بما يتماشى مع مصالحها. العمليات العسكرية الناجحة والضربات الجوية التي وجهتها إسرائيل مؤخراً، تعزز من موقفها التفاوضي وتتيح لها فرصة لإملاء شروط جديدة على لبنان، حسب ما أشار إليه مرهح.
وأضاف مرهج: “إن إسرائيل قد لا تكتفي بترسيم الحدود البحرية فحسب، بل قد تتجه نحو فرض منطقة عازلة كبيرة تمتد إلى ما بعد نهر الليطاني. إسرائيل ترى أن توسعها الجغرافي، سواء في الأراضي اللبنانية أو في المناطق الفلسطينية، يخدم مصالحها الأمنية والديموغرافية في ظل توسع المستوطنات وانتشار القوات العسكرية الإسرائيلية في المناطق الحدودية”.
على الجانب الآخر، أكد مرهج أن المقاومة اللبنانية، كما صرح نائب الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم أمس، في حالة “جهوزية تامة” لأي مواجهة محتملة، مشيراً إلى أن المعركة الميدانية هي التي ستحدد مستقبل أي اتفاقات جديدة.
المنتصر في الميدان يفرض شروطه
وقال: “إن القوة العسكرية والمقاومة على الأرض قد تكون العامل الحاسم في تغيير الخطط الإسرائيلية المدعومة أمريكياً، سواء في مسألة ترسيم الحدود البحرية أو البرية”.
وتوقع أن “إسرائيل قد تلجأ إلى إلغاء الاتفاق بالكامل إذا استمرت في تحقيق نجاحات عسكرية وسياسية. وفي حال نجاح المقاومة اللبنانية في استعادة توازن القوى، قد يتم تعديل الاتفاق أو إعادة التفاوض على أساس جديد يخدم مصالح لبنان. لكن إذا فشلت المقاومة في تحقيق إنجازات ميدانية، فإن إسرائيل قد تتمكن من فرض شروطها بالكامل، بما في ذلك قضم المزيد من الأراضي أو السيطرة على موارد الغاز في المنطقة”.
وأوضح مرهج أن الولايات المتحدة قد تلعب دوراً رئيسياً في صياغة مستقبل أي اتفاقات جديدة، سواء في لبنان أو في القضية الفلسطينية. كما أشار إلى أن إسرائيل قد تستفيد من الدعم الأمريكي والضغط الدولي لصياغة تسويات تفرض فيها شروطها دون أن تقدم تنازلات كبيرة.
وخلص إلى التاكيد على أن مستقبل اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل مُعلّق بشكل كبير على التطورات الميدانية في لبنان والمنطقة، وأن إسرائيل قد تلجأ إلى إلغاء هذا الاتفاق إذا استمرت في تحقيق نجاحات عسكرية، بينما المقاومة اللبنانية قد تسعى إلى تعديل الاتفاق أو فرض شروط جديدة في حال تمكنت من تحقيق انتصارات ميدانية.
تهديد إسرائيلي غير واضح
وعقّب الإعلامي اللبناني والباحث في الشؤون العربية والأوروبية كمال طربيه في تصريح لـ”ے” على تصريحات وزير الطاقة الإسرائيلي حول تهديد إسرائيل بإلغاء اتفاق الغاز مع لبنان، قائلاً: “إن هذه التصريحات غير واضحة”.
وأشار إلى أن هناك غموضاً كبيراً يحيط بهذا التهديد، وأن التصريحات الإسرائيلية ليست مفهومة، خاصة أن الاتفاق الذي تم توقيعه بين لبنان وإسرائيل بوساطة أمريكية يعود بفائدة كبيرة على إسرائيل، في حين لم يستفد لبنان حتى الآن من أي كمية من الغاز.
وأوضح طربيه أن إسرائيل تستفيد بشكل كامل من الغاز المكتشف في حقل “كاريش”، وتقوم بتصديره إلى أوروبا، حيث أصبحت مصدّراً رئيسياً للغاز الطبيعي في منطقة البحر المتوسط، بينما لا يزال لبنان ينتظر تحقيق أي فائدة من الاتفاقية.
وأضاف: إن شركة “توتال إنيرجي” الفرنسية، التي تقوم بعمليات الاستكشاف في حقل “قانا” (البلوك رقم 9) داخل المياه اللبنانية، أعلنت بعد الاستكشاف أنها لم تجد أي كميات تجارية من الغاز في الحقل، ما أثار تساؤلات حول سبب وجود الغاز في حقل “كاريش” وعدم وجوده في “قانا”، بالرغم من قرب الحقلين بعضهما من بعض.
كميات غير كافية من الغاز في حقل قانا اللبناني!
وتساءل طربيه حول وجود حاجز تحت مياه البحر قد يمنع الغاز من الانتقال إلى المياه اللبنانية، مشيراً إلى أن هذا الأمر يبدو غريباً. وأوضح أن الاتفاق الذي تم توقيعه بين لبنان وإسرائيل يمنح إسرائيل حق الاستفادة الكاملة من الغاز، بينما لم يستفد لبنان من أي موارد حتى الآن.
وفي ما يتعلق بالاتفاق نفسه، ذكر الاعلامي اللبناني أن الاتفاق منح إسرائيل مساحة تقدر بنحو 3,000 كيلومتر مربع من المياه الإقليمية، بعد اعتماد الخط 23 بدلاً من الخط 29 الذي كان من المفترض أن يمنح لبنان مساحة أكبر.
وأوضح أن الخط 29 كان يعتمد على نقطة الانطلاق من رأس الناقورة، بناءً على اتفاقية الحدود البحرية لعام 1982، بينما انطلق الخط 23 من نقطة تبعد نحو 30 متراً من الأراضي اللبنانية، ما أفقد لبنان مساحة كبيرة.
وفي تعليقه على تهديدات وزير الطاقة الإسرائيلي بإلغاء الاتفاق، أكد طربيه أن إسرائيل لا تزال تستفيد بشكل كامل من الغاز في حقل “كاريش”، في حين لم يبدأ لبنان في استغلال موارده بسبب توقف عمليات الاستكشاف في حقول الغاز اللبنانية.
موافقة ضمنية من حزب الله
وأضاف: إن الاتفاق تم بموافقة ضمنية من حزب الله، الذي امتنع عن توجيه أي صواريخ نحو حقل “كاريش”، على الرغم من قدرته على فعل ذلك.
وأوضح طربيه أن حزب الله كان بإمكانه توجيه ضربات لحقل “كاريش” ووقف إنتاج الغاز، لكنه لم يفعل، ما سمح لإسرائيل بمواصلة عملياتها. وتساءل عن الأسباب التي دفعت إسرائيل إلى التهديد بإلغاء الاتفاق، رغم أنها تستفيد بشكل كبير منه.
وأكد طربيه أن الموقف الإسرائيلي يبدو غير مبرر في ظل الوضع الحالي، خاصة وأن لبنان لم يحقق أي مكاسب من الاتفاق بعد، فيما تواصل إسرائيل إنتاج الغاز وتصديره بشكل منتظم.
ودعا طربيه إلى استكشاف ما وراء هذه التهديدات الإسرائيلية وما إذا كانت تهدف إلى فرض اتفاق جديد بشروط مختلفة.
الاتفاق قبله لبنان وإسرائيل برعاية أمريكية
وقال الخبير الاستراتيجي المتقاعد نزار عبد القادر من لبنان لـ”ے”: إن الحديث عن إلغاء أو تعديل الاتفاق البحري بين لبنان وإسرائيل بشأن منطقة غنية بالنفط والغاز الطبيعي في البحر المتوسط هو “كلام متعجل ولا يستند إلى أي سند قانوني واقعي”.
وأكد عبد القادر أن الاتفاق تم توقيعه برعاية أمريكية من جهة، ومن جهة ثانية قبله لبنان وإسرائيل أيضاً، وأن أي محاولة لإلغائه أو التراجع عنه من قبل إسرائيل لن تكون ناجحة من الناحية القانونية أو الدولية.
وأضاف أن هذه المسألة يمكن أن تصل إلى الأمم المتحدة أو مجلس الأمن في حال أقدمت إسرائيل على التراجع عن الاتفاق.
ولفت إلى أنه في أعقاب التوقيع على الاتفاق بدأ لبنان بالفعل عمليات الحفر في المنطقة الاقتصادية البحرية، وهناك التزامات قانونية ليس فقط مع الدولة اللبنانية، بل أيضاً مع شركات دولية لها مصالح وتحظى بدعم دول كبرى.
وأشار عبد القادر إلى أن فرض القوة لا يمكن أن يغير المعادلات المتعلقة بالحقوق الدولية، وأن اللجوء إلى القوة سيحول القضية إلى نزاع طويل يشبه احتلال دول لأراضي دول أخرى، ما قد يؤثر سلباً على السلام والاستقرار في المنطقة.
وأكد عبد القادر أن إلغاء الاتفاق البحري، الذي تم التوصل إليه بعد سنوات من التفاوض برعاية الولايات المتحدة وبموافقة الطرفين، بعيد عن الواقع، إذ لم يكن أي من الطرفين مجبراً على التوقيع، بل وقعاه بناءً على مصلحتهما كما أكد المبعوث الأمريكي آموس هوكشتين.
تغيير المعادلات الإقليمية بالقوة العسكرية
بدوره، قال وديع أبو نصار، المحلل السياسي المختص في الشأن الإسرائيلي، لـ”ے”: إن هناك حديثاً في إسرائيل حول قدرة القوة العسكرية على تغيير المعادلات الإقليمية، خاصة في ما يتعلق بالعلاقة مع لبنان.
وأشار إلى أن هناك تصوراً إسرائيلياً مفاده أن احتمال تراجع حزب الله إلى خلف نهر الليطاني قد يخلق فرصاً كبيرة لترسيم الحدود البرية والبحرية بين البلدين.
وأضاف أبو نصار أن وزير الطاقة الإسرائيلي إيلي كوهين يعتقد أن حزب الله “ابتز” الحكومة الإسرائيلية السابقة برئاسة لبيد وبينيت، ما أجبرها على التنازل جزئياً عن بعض مطالبها فيما يخص حقوق الغاز في البحر.
وبالرغم من الضربات العسكرية الإسرائيلية المتلاحقة، أوضح أبو نصار أنه من المبكر جداً الحديث عن انهيار حزب الله أو تراجعه عن مطالبه.
وأضاف: “المشكلة الكبرى تكمن في الدور الأمريكي المرتقب، مشيراً إلى أن الإدارة الأمريكية الحالية لا تبدو مستعدة لدعم المطالب الإسرائيلية المتعلقة بحقوق الغاز”. ومع ذلك، توقع أبو نصار أن تكون هناك صيغة جديدة تحاول الإدارة الأمريكية من خلالها معالجة الخلافات الحدودية بين إسرائيل ولبنان.
وتساءل حول ما إذا كانت هذه الحرب ستستمر حتى قدوم إدارة أمريكية جديدة، وربما جمهورية، يمكن أن تدعم الموقف الإسرائيلي بشكل أكبر.
ومع ذلك، استبعد أبو نصار أن تكون القوة العسكرية الإسرائيلية وحدها قادرة على فرض شروط جديدة، خاصة أن حزب الله ما زال بعيداً جداً عن الانهيار.
اعتقاد إسرائيلي بتغير موازين القوى
من جانبه، قال المحلل السياسي الأردني الدكتور منذر حوارات في تصريح لـ”ے”: إن إسرائيل باتت ترى أن موازين القوى في المنطقة قد تغيرت بشكل جذري لصالحها، ما يدفعها للسعي إلى إلغاء اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع لبنان الذي تم التوصل إليه في وقتٍ سابق.
وأضاف حوارات: “إن إسرائيل تريد الآن عقد اتفاق جديد يتماشى مع ميزان القوى الحالي الذي يميل لصالحها بشكل كامل، دون الحاجة إلى وسطاء دوليين كما حدث في الاتفاق السابق”.
وأضاف المحلل الأردني: “إن إسرائيل، في هذا الإطار، تفضل أن تكون القوة العسكرية والميدانية هي العامل الرئيسي في أي اتفاق مستقبلي