أقلام

حدث في مثل هذا اليوم….

الكاتب شفيق التلولي

أصعب ما قرأت خلال تفقدي شريط ذكرياتي عبر متصفح بوك؛ إنه في مثل هذا اليوم من العام الماضي غادرت غزة متوجها إلى القاهرة في مهمة خارجية بعد عزلة في غزة عن العالم الخارجي زهاء أحد عشر عاما.

كنت قد أعدت في مرة سبقتها بأيام من معبر رفح بسبب منعي مجددا من السفر، من ثم خرجت بعدها بأيام بتنسيق خاص ليستدعيني الأمن الحمسا.و.ي الذي أراد إيصال رسالة لي؛ لإسكات صوتي.

كذلك من أصعب التعليقات التي حملها منشور الذكرى تلك، تعليقات بعض الشهد.ا.ء سليم النفار الذي كتب لي “مع السلامة يا صديقي”، وزوجة خالي وهما اللذان سحقتهما الطائرات المجنونة وأسرهم كلها خيلاني وخالاتي وغيرهم ممن قضوا في محرقة غزة؛ يا الله كم أوجعني ذلك!.

لم أكن أعرف أن غيابي سيطول ويصبح قصريا بعدما شاءت الأقدار وباعدت الحرب بيني وبين أبنائي، أهلي وجيراني، أحبتي أصدقائي وزملائي، شوارع غزة، أزقتها وحاراتها، حكاياتها وتفاصيلها كلها بمفارقاتها المدهشة.

لم أتوقع أن تندلع حربا بتلك الوحشية التي حصدت أرواح أقارب وأحباء ودمرت كل أشيائي وأشياء غيري في غزة التي أضحت خرابا وأرض يباب يستطونها الحزن والجوع والنزوح والضياع.

أي يوم ذلك الذي استيقظت فيه على نبأ السابع من أكتوبر وما جلب من مأساة فاق وصفها كل مفردات اللغة!
ما انفكت طاحونة الحرب تأكل غزة بشرا وحجرا وشجرا، كل يوم نودع الشهد.ا.ء وكل لحظة نتبابع رحلة نزوح جديدة لأبنائنا وأهلنا؛ يقهرنا العجز والأسى واللوعة.

لم أعش ما عاشته غزة مسقط رأسي ومرقى القلب؛ غير أنني أستمع لتفاصيل مؤلمة حد الذهول والصدمة والغرابة، قيل لي مرارا “احمد الله أنك لم تعش تلك اللحظة وما تبعها من نكبة لا تشبه أي نكبة”.

ربما هم أعلم مني بتلك الأيام الثقال؛ فوحدهم من يتقلب على لظى تلك المقتلة، وجمر انتظار الخلاص الذي لم يأت بعد.
عشت حروبا مغايرة في غزة وانقلابا من ذي قبل أكل ركبتي بفعل رصاص الظلاميين القتلة الذين أحدثوا ذلك كله بفعل النزق المدمر، لكني بقيت في غزة أعاني ألم الإصابة والاعتقال المتكرر، بالرغم من أنه أتيح لي فرصة التوجه إلى رام الله من المشفى التي كنت أرقد فيها بعيدا عن غزة وقتذاك، غير أنني آثرت أن أوجه سائق المركبة الذي جاء ليقلني إلى غزة مما أثار استغرابه وأخذ يلاومني.

لا أدري لماذا جئت على تلك الحادثة؟! لكن ما قصدته هو أن أسائل نفسي هل لو كنت في غزة لآثرت البقاء أم المغادرة كمن غادرها عذرا وقسرا؟.

يقولون لي إن كل ما مر من حروب كانت لا شيء قياسا بما هم فيه الآن، أصدقهم القول لكنني أيضا لا أعرف ما الذي كنت سأشعر به لو عشت تلك اللحظات المهولة، وانتظار الموت على الطرقات وتمني الانعتاق.

على أي حال هذا ما ساقته لي الأقدار، وما فعلت بي الأيام ووضعتني بعيدا عن عائلتي أعد وإياهم أيام الحرب التي أوشكت على عام من أعوام الظلام التي تغط فيها غزة من قبل في زمن الاستلاب والارتهان زمن صناع الموت وأعداء الحياة.
لا أملك غير الكلمة مع يقيني بعدم نفع الكلام في حضرة هذا الدم المقدس؛ لعلي أكون صوتهم في تلك البلاد الوسيعة، أخفف عنهم وعني، وألهج بالدعاء لهم بالنجاة وهدأة البال ولم شمل شتاتنا الذي طال.

السلام عليك يا غزة ملح الأرض وسيدة المدن، السلام على أهلك الطيبين في الأولين والآخرين، والسلام على من أحب بحرها ما أحب الوطن.

زر الذهاب إلى الأعلى