بـيـن الـنـضـوج والـحـكـمـة
عبد الغني سلامة
ثمة فرق كبير بين من يرددون الشعارات والمقولات كالببغاوات، ومن يتلقونها بروية، ويعيدون إنتاجها بحكمة .. وعندما نقول حكمة، لا نقصد أن يُجمع الناس على قول واحد، أو يتخذوا موقفاً موحداً إزاء قضية ما؛ فالاختلاف والتعددية وتباين الآراء هو الشيء الطبيعي والمتوقع في المجتمعات الإنسانية، فلا يوجد شخصان يتشابهان معاً في كل شيء، ولا يوجد مجتمع يتطابق في ثقافته وسلوكه مع مجتمع آخر.. تلك سنة الكون، وناموس الطبيعة.
الناس مختلفون فيما بينهم في كل شيء تقريباً؛ في الأذواق، والمشاعر، والاستجابة، وفي اتخاذ المواقف، وتبني الآراء، ومعايير الحكم على الأشياء .. البعض يحبون الموسيقى الكلاسيكية، وآخرون يفضلون الموسيقى السريعة، وغيرهم يرفضون الموسيقى من حيث المبدأ.. لكل شخص لونه المفضل، وشاعره المحبوب، وهواياته الفردية، وقناعاته الخاصة، وتوجهاته الفكرية المحددة .. ويقول علماء النفس التطوري، وعلماء الاجتماع إن الناس داخل البيئة الاجتماعية الواحدة يتشابهون فيما بينهم بنسق أكثر انسجاماً، مقارنة بأي مجتمع آخر، فالمجتمع الواحد ينتج أفراده بثقافة معينة، ويربيهم عليها، متأثراً بمراحل التطور التاريخي والسوسيولوجي، وبالظروف السياسية والاقتصادية، وبموروثه الثقافي والقيمي المتراكم على مر السنين .. ويزداد الانسجام بين أبناء الشريحة الواحدة، وبين أبناء الطبقة الاجتماعية، ولكن مهما بلغ هذا الانسجام تظل الفروقات الفردية من شخص إلى آخر.
وكلما كان المجتمع أكثر انفتاحاً وتمدناً وحرية زادت الفروقات الشخصية بين الأفراد، وبين الشرائح والفئات .. أما في المجتمعات البدائية، أو تلك التي تحكمها أنظمة شمولية ودكتاتورية فتقل الفروقات أو تذوب، إلى درجة التطابق «الشكلي»، حيث إن النظم التوليتارية والأحزاب الشمولية تسعى لتنميط المجتمع، وإزالة الفروقات والتباينات الفردية، كوسيلة إخضاع وتحكّم في المجتمع .. وطبعاً بالتركيز على المظاهر والأزياء والسلوك والمفردات المستخدمة، بالاستعانة بالشعارات الحزبية، وبالخطاب الإعلامي الموجه .. ببساطة لأن الفروقات الشخصية هي نتاج الحرية، والحرية تعني وجود شخصيات مثقفة خارجة عن السياق العام، أو متمردة على القطيع، وبالتالي وجود قوى معارضة، ما يعني ضعف قدرة النظام في التحكم بالشعب، وتمرير رواياته ودعاياته المضللة، وأيضاً ضعف قدرة الحزب على التحكم والسيطرة على أفراده.
عموماً، يمكن القول إن الشعب الفلسطيني من أكثر الشعوب صعوبة للانقياد، ليس لأنه يتمتع بالحرية، بل بسبب توزعه على عدد كبير جداً من البلدان، التي أوجدت فروقات وتباينات كبيرة في البيئات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والخطاب الإعلامي السائد في البلدان التي حل بها، فضلاً عن نسبة التعليم العالية.. لذا ستجد تباينات واسعة في الآراء والمواقف والاتجاهات الفكرية والسياسية، رغم توحده على حب فلسطين، وتوقه للعودة، وتطلعه للاستقلال والحرية..
وبشكل عام، لدى الشعب الفلسطيني، ولدى كل شعوب ومجتمعات العالم، رغم الفروقات الفردية في الآراء والمواقف والاتجاهات، تشابه مدهش يكاد يصل إلى درجة التطابق في آليات وطرائق التفكير، فالأغلبية الساحقة من الناس يبنون ثقافتهم ويتخذون مواقفهم ويشكلون قناعاتهم استناداً إلى الثقافة السمعية، لذا تتفشى بينهم العديد من الأنماط السلبية في التفكير، نذكر منها على سبيل المثال: تقديس النص الديني وإلغاء العقل وتنحيته جانباً، والتأثر بنظرية المؤامرة، والذهنية الغيبية، والاستخفاف بإصدار الأحكام، والتسرع بتبني الآراء استناداً للأحكام الجاهزة والآراء المسبقة والانحياز المعرفي .. وغيرها..
ومن المتوقع أن نجد مثل هذه الأنماط السلبية والعقيمة في التفكير لدى الناس البسطاء، أو عند أولئك الذين لم ينالوا قسطاً من التعليم.. وحتى لدى من يعتبرون أنفسهم «مؤثرين» على وسائل التواصل الاجتماعي.. لكن المستغرب والمستهجن أن تجدها لدى من نعتبرهم مثقفين، وحملة شهادات عليا، وكتّاباً معروفين، وقادة حزبيين، وخبراء إستراتيجيين.. الذين من المفترض أن نثق بهم، ونعتمد على تحليلاتهم واستنتاجاتهم.
فالمواطن العادي البسيط، والمتأثر بما يروج في الإعلام، وعلى «فيسبوك» و»التيك توك».. من حقه أن يعبر عن رأيه، وأن يقول كلمته بناء على حصيلته المعرفية المتواضعة، واستناداً إلى ما هو مخزن في عقله الباطن، من موروث ثقافي، وقيم اجتماعية ودينية، وأحكام مسبقة.. كل هذا متوقع وطبيعي ومقبول.. لكن ما هو غير طبيعي، وغير مقبول أن يصل الكاتب أو الخبير أو القائد أو المثقف الجامعي أو المحلل السياسي إلى هذه المرحلة دون أن يمر بمراحل التطور والنضوج الفكري، فيظل محبوساً في قفص «الموروث»، وفي سجن عقله الباطن، وأن يظل يحتكم إلى مقولات وشعارات وأحكام وقصص ساذجة وربما أمثال شعبية سمعها في طفولته، أو في مقتبل شبابه، ولم يقم بمراجعتها، أو التدقيق بمدى صحتها.. أو مدى تناسبها مع ما جرى من متغيرات جذرية طالت كل مرافق وأوجه الحياة.
فمثلاً من غير المقبول لصحافي محترف نقل خبر أو صورة دون التدقيق في صحتها، وغير مقبول لقائد حزبي ترديد شعارات كانت صالحة في الخمسينيات، وغير مقبول لحامل دكتوراه ترويج أفكار غيبية، وغير مقبول للمثقف التسرع بإصدار الحكم دون محاولة تفهم الرأي الآخر، أو أن يقفز محلل سياسي بخفة عما يحيط به من ظروف ومستجدات، وأن يصل إلى استنتاجات معينة، ميزتها الوحيدة أنها مقبولة من الجماهير، وتدغدغ عواطفهم، أو ينتقد الحزب المناوئ أو السلطة التي يناهضها، فيضخم أخطاءها، أو يختلقها، أو يسيء تفسيرها لأنه يكرهها، أو مختلف معها أيديولوجيا، وبالطبع بعد أن يغض نظره تماماً عن أخطاء جماعته.. والحيل التي يستخدمها هؤلاء الاستعانة ببلاغة اللغة، وبالشعارات الرنانة، والزج بالمصطلحات الكبيرة والمعقدة، حتى دون الحاجة لها.
ومع ذلك، ستجد كتّاباً ومحللين وخبراء على قدر عال من الثقافة والمعرفة، لكنهم يلجؤون للخطاب الشعبوي التسطيحي، وينقادون بجبنٍ أو بأنانية إلى دكتاتورية الرأي العام، يخونون ثقافتهم أولاً، لأنهم إما منحازون للسلطة (خوفاً أو طمعاً)، أو ينساقون لما هو رائج في الشارع؛ وفي مقولة منسوبة إلى طيب الذكر لينين: «المثقفون الأقدر على الخيانة، لأنهم الأقدر على تبريرها..».
السياق الطبيعي للتطور أن يبدأ الكاتب أو المثقف أو الخبير بتلك الأخطاء والممارسات وأنماط التفكير، ثم يكتشف حجم المغالطات المنطقية التي يقع فيها، ويبدأ بالتمحيص والتدقيق والتروي، ويغيّر رأيه وأفكاره مراراً وتكراراً، حتى يتحلى بالموضوعية والصدق مع الذات، وصولاً إلى النضوج والحكمة (وليس اليقين).. والمؤسف أن الأكثرية لا تصل إليها.. وفي قوله تعالى: «ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً».