أقلام

مراهنات حماس قبل وأثناء وما بعد طوفان الأقصى

الكاتب: عبد المجيد سويلم

الرهان الأكبر والأهمّ لحركة حماس قبل طوفان الأقصى كان – كما أرى – إيهام دولة الاحتلال بأن الهمّ الرئيسي للحركة لم يعد خيار المقاومة، وأن همّها الأكبر ينصبّ على السلطة والحكم، وهي لهذا تنزع نحو التهدئة، بل وتبحث عنها.
وسواء اعترف بنيامين نتنياهو أم لم يعترف، هو وقادة جيشه، وكذلك أذرع الأمن كلها، فإنّ الحركة قد نجحت نجاحاً باهراً على هذا الصعيد.
الحقيقة أنّ محاولات نتنياهو المستميتة، واستقتاله لمنع التحقيق في هذه القضية بالذات، وفي كلّ «السياسات» الرسمية ما قبل «الطوفان»، وعمل كل ما من شأنه أن يُلصق «التهمة» على الجيش وأجهزة الأمن الإسرائيلية ليس سوى خوفه من أن يؤدّي مثل هذا التحقيق إلى الاستنتاج المنطقي الوحيد في هذه الحالة، وهو أن هذا الخداع التي نجحت «حماس» بتمريره على نتنياهو هو بالذات الذي «مكّنها» من القيام والإقدام على «الطوفان»، خصوصاً بعد اعتراف رئيس الأركان في جيش الاحتلال هرتسي هليفي بهذا الفشل علناً، ومن دون أيّ مواربة.
وقبل «الطوفان» راهنت «حماس» على «تأمين» حدود معيّنة من علاقات متينة مع إيران، وقامت بخطوات كبيرة نحو إعادة المصالحة مع النظام السوري بعد وساطة قام بها «حزب الله» اللبناني بإلحاح شديد، بتزكية عالية من طهران.
والدليل على أن «العمى» السياسي والأيديولوجي عند القيادات الإسرائيلية قد لعب دوراً كبيراً في الفشل الإسرائيلي حيال قراءة ما كان يجري من تحضيرات لـ»الطوفان» هو أنّ ثمة تناقضاً واضحاً ما بين «التوجّهات الخادعة» لـ»حماس» بالتركيز على «السلطة والحكم»، وما بين إلحاح الحزب على مصالحة الحركة مع نظام بشار الأسد بتأييد إيراني واضح ومعلن أحياناً.
الفشل الإسرائيلي هنا فاضح، ومسؤولية نتنياهو أكبر بكثير من أن يتمكّن، هو أو كل قيادات الجيش وأذرع الأمن من التستّر عليها، حتى لو أنّ «المخطّط» الإسرائيلي للضفة الغربية كان يقتضي «تحييد» القطاع إلى «ما بعد» حسم معركة الضفة حسب مفاهيم واعتبارات «اليمين الفاشي»، ذلك أن هذا يؤكّد صحة «العمى السياسي والأيديولوجي» من جهة، وصحّة أن الاعتبارات الخاصة بـ»اليمين الفاشي» هي التي أدّت إلى هذه القراءات المغلوطة، والتي فشلت في نهاية الأمر.
الرهان الثاني كان على ما يبدو لي هو أن تؤدّي عملية «الطوفان»، بما فيها من دقة وإبهار في الأداء وما كانت تنطوي عليه من «صدمة» صاعقة، والنتائج «المذهلة» المنتظرة منها، إلى «اشتعال» حالة شعبية في الضفة وحراك وطني كبير لدى فلسطينيي الداخل، وإلى حالة غليان فلسطيني في الشتات، وامتداد هذا الغليان إلى بعض البلدان العربية، وتحوّل «الطوفان» إلى محرّك لحالة عربية جديدة، وغير مسبوقة ستجبر «النظام العربي» على التصدي لردود الأفعال الإسرائيلية بعد أن يكون «الطوفان» قد نجح في إعادة وضع الحقوق الفلسطينية على جدول أعمال الإقليم، وعلى جدول أعمال العالم تبعاً لتطورات الإقليم، خصوصاً أن «حماس» كانت على معرفة مسبقة بأن «حزب الله» سيدخل على خطّ الحرب من موقع المساندة على الأقلّ.
لا يمكن لأيّ فصيل سياسي وعسكري، ولا لأي حركة مقاومة أن تخوض حرباً على هذه الدرجة من الأهمية والخطورة دون أن يكون لديها مثل هذه التوقعات والتصوّرات، خصوصاً أن أهل القطاع، وعلى مدى زمني طويل امتدّ لأكثر من 17 عاماً، عانوا من الحصار وتعرضوا لخمس حروب عدوانية، كان جيش الاحتلال خلالها يمارس أبشع أنواع التدمير والقتل والإجرام.
أي أنّ الحركة راهنت على صورة الظلم والإجرام التي تولّدت عن سنوات طويلة من تحويل القطاع إلى أكبر سجنٍ في التاريخ.
وفي وضع دولي منحاز لدولة الاحتلال، وبات يتستّر على جرائمها والاكتفاء بالحديث عن حقوق الشعب الفلسطيني وكأنها باتت مجموعة من الاحتياجات الإنسانية، وفي وضع عربي بات مستعداً أكثر من أيّ وقتٍ مضى للذهاب بعيداً في «التطبيع» مع دولة الاحتلال دون ربط هذا «التطبيع» عملياً مع زوال احتلالها، كان على «حماس» أن تقلب الطاولة مراهنة على قوتها أوّلاً، قبل المراهنة على أيّ عوامل أخرى، وقد أعدّت نفسها على هذا الأساس دون أن تهمل بالمقابل المراهنة على «محور» للمساندة، ودون أن تفقد الأمل باشتعال الضفة، والحراك في «الداخل» والشتات، ودون التنازل عن حقها في المراهنة على انفجار الشوارع العربية بهدف إجبار النظام العربي على التدخل بالحدود الدنيا، وبما يمنع دولة الاحتلال من الاستفراد بالشعب الفلسطيني وممارسة الإجرام الذي مارسه بحق القطاع المحاصر والمجوّع والمحاط بكل أشكال الموت المباشر والبطيء في واحد من أبشع ما شهدته وما مرّت به البشرية من مشاهد الظلم والإجرام والهمجية والوحشية والإرهاب العنصري.
فهل أخطأت «حماس» في كل مراهناتها أم أنّ كل هذه المراهنات كانت طبيعية، وكان سوء التقدير في عامل هنا، وفي آخر هناك، كلياً أو جزئياً، كان سيكون في موضع المراهنة في واقع الظروف التي أحاطت بـ»الطوفان»؟
على العكس من كلّ الأطروحات التي حاولت أن تقرأ في مراهنات «حماس» وكأنها جزء من «عشوائية» الحسابات، فإنني أرى أن هذه المراهنات كانت بالإجمال رهانات عقلانية حتى لو أنها لم تتحقق بالكامل، خصوصاً فيما يتعلق بالضفة و»الداخل»، والذي سنأتي عليه في وقفة خاصة.
أوّلاً، لأنّ «حماس» لم تبنِ إستراتيجية «الطوفان» على هذه المراهنات، وثانياً، لأنها اعتبرت هذه المراهنات ذخراً احتياطياً، وليس قاعدة للانطلاق أو الارتكاز الرئيسي، وهي ثالثاً، أرادت أن تحدث في الواقع المحيط ما يمكن أن يتحوّل في سياق هذه الحرب إلى قوة دفع إضافية في «الطوفان».
وبالرجوع إلى الواقع الملموس لهذه المراهنات، وليس بالرجوع إلى المواقف المسبقة التي تقطر في كثير من الأحيان سمّاً مذهبياً بغيضاً، وفي أحيان أخرى مواقف معلّبة، دون أن نتغافل عن بعضها المنطلق بدوافع وطنية، وغيرة وطنية، بالرجوع إلى المراهنات، خصوصاً المراهنة على دور «حزب الله»، وهو الحليف الأوّل لـ»حماس» من خارج الإطار الفلسطيني، فإننا نلاحظ أن هذا الحزب، وللمرة الأولى في كامل تاريخ الصراع، قد قدّم دعماً وإسناداً لمعركة غزّة ما فاق كل تصور وتوقع.
ولو توفّرت الروح الوطنية، وذهنية العرفان والامتنان، لكان الموقف الوطني الشريف هو موقف الشعور بأعلى درجات الاعتزاز والافتخار لما قدمه الحزب دفاعاً عن فلسطين، مقابل مواقف الخذلان والتواطؤ التي لم نسمع كلمة واحدة ضد ما اقترفوه بحق شعبنا عندما تركوه وحيداً، ولم يتمكنوا من إدخال زجاجة ماء على مدى أكثر من 15 شهراً، إلّا بإذن قوات الاحتلال وشروطه المذلّة.
واستشهاد حسن نصر الله وعشرات القيادات، وتدمير الكثير من مقدّرات الحزب، وتهجير عشرات الآلاف من بيئته، هو علامة تحول كبيرة في الدور القومي للحزب، وفي فهمه لأبعاد المخطط المرسوم لتصفية القضية الوطنية، والشعب الفلسطيني سيظلّ مديناً لبطولات الحزب وتضحياته، ولكل من قدّم الدعم والإسناد في هذه الحرب الوطنية.
وكان دور «الحوثيين» اليمنيين ودور إيران، ودور نظام الأسد، بصرف النظر عن أيّ ملاحظات، دوراً مشرّفاً إلى جانب «الحشد الشعبي» وبعض فصائل العمل الإسلامي في لبنان.
وهذه هي المرّة الأولى التي يتجسّد فيها كسر المعادلة المذهبية، ويتوحّد فيها الدم العربي بعد حرب النكبة 1948.
فهل كل هذا يعتبر في عرف البعض مراهنات عشوائية؟

زر الذهاب إلى الأعلى