نتنياهو يحلم بتشكيل العالم على هواه
كتب الكاتب : رجب أبو سرية
متابعة ما يقول به وما يعلنه بنيامين نتنياهو، ووزير جيشه يوآف غالانت، خلال شهور الحرب السبعة الماضية، بقدر ما تشير إلى كيفية إدارتهما للحرب بأهواء سياسية ودوافع عقائدية، بقدر ما تكشف سبب فشلهما في تحقيق أي هدف عسكري أو سياسي حتى الآن، فضلاً عن كشف السبب الحقيقي لفشل إسرائيل المركب يوم السابع من أكتوبر الماضي.
فنتنياهو، ومثله غالانت، يبدو هشاً، لا هو قائد تاريخي، يمكنه أن يصنع السلام ( وهو لم بفعل ذلك فعلاً طوال ربع قرن له في الحكم)، ولا يمكنه أن ينتصر في الحرب، ولا يعود ذلك لكونه رجلاً سياسياً لم يسبق له أن تبوأ المناصب العسكرية الرفيعة كما كان حال رؤساء حكومات العمل واليسار عموماً، بل لأنه رجل يمكن وصفه بأنه «ستاتيكي»، كفاءته الرئيسية تكمن في قدرته على ممارسة الكذب والخداع، فيما يفتقر إلى ذكاء وحنكة وسعة أفق القادة التاريخيين، وقد انكشف تماماً، في آخر عمره السياسي، حين ربط مصيره برجلين يمكن اعتبارهما وصفة مضمونة لزج إسرائيل ودفعها إلى مستقبل قاتم السواد، أقل ما يمكن التوقع بما ينطوي عليه، هو العزلة المؤكدة لإسرائيل، بما سيفرض عليها في نهاية الأمر التفكك كدولة استعمارية عنصرية، كما حدث مع دولة الفصل العنصري التي كانت في جنوب أفريقيا خلال الحرب الباردة.
نتنياهو وغالانت بشكل خاص ومن ثم كابينت الحرب، وحتى كل أعضاء الحكومة الإسرائيلية الحالية ينتمون إلى الماضي، كل ما يقولونه مثير للغرابة، وكل تصرفاتهم تثير الرفض في العالم، فهم باختصار خارج العصر، لغة وحضوراً، مواقف وآراء وسلوكاً.
وإذا كان الدرس الإنساني الأول الذي يتعلمه الإنسان هو أن يحب لجاره ما يحب لنفسه، وأن عليه أن يعامل الناس كما يحب أن يعاملوه، فإن قادة إسرائيل الحاليين أقل ما يمكن أن يقال فيهم، بأنهم لم يتعلموا الدرس الأول في الحياة، وهم أحوج الناس له. وقد أثبتت الحرب الدائرة وقبلها حرب 73 أنها بعد 80 من تأسيسها لا تعيش دون الحماية الأميركية الغربية المباشرة_ فعليها أن تخطب ود كل الجيران، وأن تتوافق معهم، تحترم عاداتهم وثقافاتهم وأديانهم، والأهم أن تحترم حقوقهم الطبيعية كبشر، وأن تنسى لغة الفرض والقوة، التي لم تنفع من اعتمد عليها من قبلها.
إن آخر ما قاله غالانت في ذكرى الجنود الذين سقطوا في هذه الحرب، هو أن هذه الحرب بلا خيار، وأنها ستشكل حياة الإسرائيليين لعقود قادمة، وبالطبع هو لم يدقق في الكلمات التي تفوّه بها، والمعنى عنده في اتجاه واحد، أي أنه ليس على قدر من الوعي ليفكر ولو للحظة، بأن هذه الحرب حقاً تحدد حياة الشرق الأوسط، وربما العالم لعقود قادمة، ولكن من قال بأنها ستنتهي وفق ما يرغب به هؤلاء العنصريون، أو أنها ستحدد حياة الإسرائيليين دون غيرهم، أو بمفردهم، أو ستحدد لهم حياتهم وفق هواهم، فيما يحددون هم حياة غيرهم كما يشاؤون؟
نعم ستحدد هذه الحرب مستقبل المنطقة، ولكن وفق ما لا يشتهيه غالانت ونتنياهو، حتى لو أنهم هزموا «حماس» عسكرياً، أو حتى لو أنهم حققوا «النصر» كما يفسرونه دائماً، وإسرائيل حتى يتذكر هؤلاء الأغرار في السياسة حققت انتصارات عسكرية متتالية طوال العقود الثمانية الماضية، بدأتها بالانتصار على سبعة جيوش عربية عام 48، ثم على ثلاث دول عربية عام 67، ثم حققت انتصاراً عسكرياً وهدفاً سياسياً على الثورة الفلسطينية عام 82، وأخرجتها من لبنان، لكن هذه الانتصارات لم تكن كافية، حتى بعد توقيع اتفاقيات السلام مع مصر والأردن و (م ت ف) لتحقق الأمن لها والسلام لغيرها والاستقرار للشرق الأوسط، فما أن خرجت الثورة الفلسطينية من لبنان حتى ظهرت المقاومة اللبنانية، ثم الانتفاضة الفلسطينية، وما أن عقدت «فتح» اتفاق السلام معها، حتى ظهرت «حماس»، ولو اختفت «حماس» فإن حركات أخرى ومقاومات تالية ستظهر دون شك.
واليوم فإن إسرائيل، حتى لو فرضت على غزة الصمت، بتسويتها بالأرض، فإن هناك الضفة الغربية، وكلما اجتازت إسرائيل حاجزاً، اصطدمت بحواجز تالية، واليوم هي تحارب خمس أو ست جبهات، بل إن العالم كله قد تألب عليها، حيث تحتاج وفق ما يقدره خبراؤها السياسيون لعقود حتى تعيد ترميم صورتها في نظر العالم.
أما بنيامين نتنياهو وهو الأكثر خبرة من تلميذه ومرؤوسه غالانت، الذي وجد نفسه وزيراً لجيش يشن حرب إبادة جماعية بسبب ترتيبات داخلية بين اليمين الليكودي واليمين المتطرف عند تشكيل حكومة الإرهاب الحالية، نتنياهو هذا الذي أكد لكل من كان لديه أدنى شك، بأنه يشن حرباً بدوافع أمنية أو سياسية حتى، أكد بما لا يدع شكاً لأحد بأنه يشن الحرب ليبقى في الحكم، هارباً من المساءلة القضائية داخل إسرائيل وخارجها، ولهذا السبب راوغ وتهرب من الإجابة عن السؤال الأميركي منذ أول يوم للحرب المتعلق باليوم التالي، وهو سؤال يحدد أهداف الحرب الحقيقية.
بالطبع إضافةً لأسبابه الشخصية، وحتى يبقى في الحكم، اعتمد نتنياهو على بن غفير وسموتريتش، لذا كان يقود الحرب بما يقنعهما بأنه يشن عملية تهجير وإبادة لقطاع غزة، وأن ادعاءه شن الحرب على «حماس» هو ادعاء مجزوء، وحيث أن الأميركيين يوافقونه على محاربة «حماس» لكن دون فلسطين، فقد رفض اقتراحهم بعودة السلطة الفلسطينية لغزة، ما بعد الحرب، كذلك حاول الأميركيون أن يمنعوه من اجتياح رفح، وفتح الطريق للإغاثة الإنسانية، وتجنب قتل المدنيين، أي تجنب حرب الإبادة، لكن دون جدوى، وهكذا فقد ظهر نتنياهو الذي يقود حرب ارض الآخرين المحروقة، باستخدام كل آلة القتل والتدمير الهائلة التي لديه.
بذلك وصل نتنياهو إلى شباك مذكرة التوقيف العالمية، ووضع إسرائيل في قفص اتهام القضاء العالمي، والحقيقة أن هذا أسوأ ما يمكن أن يقوم به زعيم لبلده، لأنه حتى ولو عاش لحظة الانتصار، فإن تلك اللحظة لن تطول كثيراً، وسرعان ما ستحيق الهزيمة ليست الشخصية به، لكن الهزيمة العسكرية والسياسية لدولته، وقد تعيش بعد ذلك بلده ذل الهزيمة التاريخية، كما حدث مع كل الدول التي سارت على هذا الطريق الفاشي، وارتكبت جرائم الحروب، وسعت إلى السيطرة والهيمنة، وكانت دولاً عظمى، هزمت حين حاربت الشعوب على أرضها في فيتنام، والجزائر وأفغانستان.
أما آخر ما قاله نتنياهو بعد أكثر من سبعة شهور على الحرب، واظب خلالها على تجنب الإجابة عن سؤال اليوم التالي، فكانت إشارته إلى فكرة نفي قادة حماس لخارج قطاع غزة بعد استسلامهم، وكأنه قد حقق النصر فعلاً وأخيراً، ومن يفكر هكذا يجعل ظهر عدوه للحائط، ولا يبقي له من خيار سوى المقاومة، ثم الأنكى من ذلك ما يفكر به من إدارة إسرائيلية عسكرية ومدنية مؤقتة (6 شهور إلى سنة)، مع تشكيل إدارة محلية «من السكان المحليين»، إلى جانب مسؤولين من دول المنطقة، ويتجاهل أن سكان غزة هم فلسطينيون، وأن هناك دولة وحيدة يحق لها أن تدير شؤونهم هي دولة فلسطين.
هذا هو منطق العنصري الذي يفرض تفوقه وامتيازه بالقوة على غيره، يفكر وحده، ويظن بأنه يحق له أن يقوم بترتيب كل العالم من حوله على هواه، وكأنه إله، والآخرون مجرد بيادق بين يديه، والحقيقة أن كل ذلك ليس سوى وهم، حين يقرؤه ويتأمله الآخرون، وتأمّل شخصية نتنياهو وهو يقود إسرائيل للتهلكة، يؤكد بأنه بات خطيراً جداً على الشرق الأوسط والعالم، وعلى إسرائيل أولاً، وأن إلقاء القبض عليه، وتحرير رقبة إسرائيل من بين يديه هو مسؤولية الإسرائيليين أولاً وأخيراً، لكن ربما يحاول الأميركيون مساعدتهم قبل فوات الأوان.