القدس المحتلة – المواطن
لفهم ما يحصل في الشرق الأوسط اليوم بطريقة أمثل ينبغي قراءة الوقائع على أنها صراع لإقامة نظام إقليمي جديد. فمنذ هجوم “حماس” على إسرائيل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، برزت ثلاثة تصورات متنافسة لهذا النظام، وهي ثلاثتها ما لبثت أن تعثرت: تصور “حماس”، وتصور “حزب الله – إيران”، والتصور الأميركي، إذ إن “حماس” سعت (في السابع من أكتوبر) إلى إشعال حرب متعددة الجبهات هدفها تدمير إسرائيل.
وإيران من جهتها، مع وكيلها “حزب الله”، سعت إلى حرب استنزاف من شأنها أن تؤدي إلى انهيار إسرائيل وإخراج الولايات المتحدة من المنطقة. أما الولايات المتحدة، التي دعمت إسرائيل بثبات، فقد أملت باستقرار إقليمي يقوم على احتمالات سياسية جديدة للإسرائيليين والفلسطينيين، وعلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية، والتوصل إلى اتفاق دفاعي بين واشنطن والرياض، لكن أياً من هذه الرؤى أو التصورات لم يثبت قابليته للاستمرار.
فـ”حماس” و”حزب الله” وإيران أساؤوا تقدير قوة الجيش والمجتمع الإسرائيلي ومتانة التحالف بين أميركا وإسرائيل. والولايات المتحدة من الجهة الأخرى بالغت في تقدير قدرتها على التأثير في مقاربة الإسرائيليين للحرب في غزة، كما أنها لم تواجه بما فيه الكفاية التهديد الإقليمي الذي تشكله إيران.
على أن فشل هذه الرؤى الثلاث اليوم يخلق فرصة لمصلحة رؤية رابعة أكثر واقعية، أي الرؤية الإسرائيلية، إذ على مدى الأشهر الثلاثة الماضية بدأت إسرائيل ممارسة قوتها لإعادة تشكيل الشرق الأوسط. فقضت على قدرات “حماس” العسكرية محطمة نهجها الردعي الذي تمتعت به منذ زمن، وأجهزت على قيادة “حزب الله”، مجبرة هذا التنظيم اللبناني على القبول بشروط وقف إطلاق نار كثيراً ما رفضها، مما أدى إلى عزل “حماس” وحرمان إيران من أقوى وكلائها في المنطقة. كذلك قامت إسرائيل بتنفيذ ضربات حساسة داخل إيران.
كذلك فإن عملية الإطاحة الانتهازية بنظام الأسد في سوريا على يد قوى متمردة يمكن أيضاً فهمها جزئياً على أنها محاولة للاستفادة من تقويض إسرائيل للقوة الإيرانية الإقليمية. وقد خسرت إيران نتيجة ذلك الممر البري الممتد من حدودها وصولاً إلى إسرائيل، وهو الممر الذي كرست طهران من أجله مصادر كبيرة على مدى العقود الأربعة الماضية.
وتشير هذه التطورات جميعها إلى حصول تحول دراماتيكي، إذ بعد قرابة العام من هجوم السابع من أكتوبر كانت رؤية إسرائيل لمستقبل المنطقة غير واضحة. فإسرائيل كانت تدافع عن نفسها، وتقاتل، استطراداً بهذا السياق، للحفاظ على الوضع القائم الذي لن تعاد صياغته وتأسيسه أبداً.
وعلى رغم اتسام عملياتها بالعدوانية، فقد امتنعت إسرائيل عن تعطيل ديناميكيات الردع القائمة مع “حزب الله” وإيران. وهي إلى ذلك ترددت في فرض نظام جديد تزامناً مع الموقف الدولي منها كمحرض على التصعيد، ومع الانقسامات الداخلية التي راحت تضعف المجتمع الإسرائيلي.
إسرائيل الآن تعيد تشكيل الشرق الأوسط من خلال العمليات العسكرية، لكنها ستستفيد في السياق من تأكيد نفسها سياسياً أيضاً. فهي لديها الفرصة السانحة والمسؤولية لتوجيه مسار المنطقة نحو واقع جديد أكثر سلماً واستمرارية. قدرة إسرائيل في الوقت الحالي على فرض تغييرات إقليمية عسكرياً ما زالت تفوق استعدادها لصياغة رؤية استراتيجية متماسكة، إذ حتى الآن ليس هناك أفكار استراتيجية واضحة تواكب نجاحاتها التنفيذية على الأرض.
من هنا، فإن على إسرائيل الدفع لقيام إطار سياسي يواكب أو يماشي نجاحاتها في أرض المعركة. إن قيام تحالف عربي – إسرائيلي مدعوم من الولايات المتحدة، من شأنه أن يصد التهديدات من أي جماعات راديكالية سنية وشيعية، وأن يمنح الفلسطينيين مستقبلاً سياسياً واقعياً، ويضمن مصالح إسرائيل الأمنية، ويكفل عودة الرهائن الإسرائيليين الذين ما زالوا في غزة، ويمنع تنفيذ هجوم آخر على التراب الإسرائيلي.
وعلى إسرائيل ألا تسعى إلى فرض رؤيتها لنظام إقليمي جديد بمفردها، إذ إنها تحتاج إلى موافقة الولايات المتحدة ودول عربية، إضافة إلى ألمانيا والمملكة المتحدة، حتى في وقت تشهد فيه السياسة الخارجية الأميركية عملية صياغة جديدة في عهد الرئيس المنتخب دونالد ترمب. هذا الوضع حساس ودقيق جداً. لكن للمرة الأولى منذ هجوم السابع من أكتوبر، لدى إسرائيل اليوم فرصة للاستفادة من اللحظة الراهنة.
الخطط الأمثل
عندما أمر قائد “حماس” الراحل يحيى السنوار باجتياح إسرائيل في السابع من أكتوبر 2023، فعل ذلك على ضوء تصور مدروس للشرق الأوسط. فهو توقع بعد هجوم “حماس” هجوماً فورياً منسقاً تقوم به مختلف الميليشيات المدعومة إيرانياً في المنطقة، هجوم يسهم في إلهام الإسرائيليين العرب والفلسطينيين بالضفة الغربية للبدء بانتفاضة جديدة. واعتمدت خطة السنوار على مشاركة “حزب الله” وجماعات أخرى مدعومة إيرانياً ضمن “محور المقاومة” وحتى إيران نفسها، في المعركة، مما سيؤدي بنهاية المطاف، وفق تصوره، إلى هزيمة كاملة لإسرائيل.
لكن السنوار أخطأ تماماً في تقدير الديناميكيات الإقليمية، إذ في الثامن من أكتوبر على رغم إعلان “حزب الله” دعمه “حماس” وبدئه بقصف البلدات الإسرائيلية، بقيت تحركات هذا الحزب محدودة. وأطلقت الميليشيات الشيعية الصواريخ والمسيرات من العراق وسوريا لعرقلة وتشويش أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية المتطورة، بيد أن هذه الجهود لم تشكل تهديداً كبيراً لتلك الدفاعات.
وانضم الحوثيون في اليمن إلى الهجمات عبر استهداف السفن في البحر الأحمر وإطلاق الصواريخ على المدن الإسرائيلية. وسهل الديكتاتور السوري بشار الأسد وصول شحنات الأسلحة الإيرانية إلى لبنان، لكنه وعلى نحو لافت، منع الميليشيات الإيرانية من مهاجمة إسرائيل من الأراضي السورية ولم يشرك الجيش السوري في النزاع، على رغم الضغوط التي مارسها الإيرانيون عليه ليفعل ذلك.
ولم يجتاح “حزب الله” الأراضي الإسرائيلية، بل ركز عوضاً عن ذلك على إشغال جيش الدفاع الإسرائيلي من الشمال لتحويل انتباهه بعيداً من غزة. كما أمل السنوار، إضافة إلى هذا، بانتفاضة فلسطينية لم تتبلور بسبب الانتشار السريع والفعال لجيش الدفاع الإسرائيلي في مناطق الضفة الغربية التي توجد فيها “حماس” وحركة “الجهاد الإسلامي” الفلسطيني. وفي الأثناء أطبقت إسرائيل بقوة شديدة على غزة، إذ قتلت الآلاف من مقاتلي “حماس”، بينهم أخيراً يحيى السنوار نفسه.
وكان قرار إسرائيل في الانخراط بحرب طويلة الأمد أسهم بداية في تشجيع إيران و”حزب الله” على المضي قدماً في المعركة. فهما رأيا بالنزاع فرصة لإثبات هيمنتهما الإقليمية، إذ خلافاً لـ”حماس” التي كان هدفها المباشر تدمير إسرائيل، سعت إيران وعلى نحو أكثر هدوءاً، إلى تحسين موقفها الإقليمي.
كما هدفت طهران عبر إطلاق حرب استنزاف ضد إسرائيل إلى زيادة الضغط على المجتمع الإسرائيلي وتضخيم أكلاف الحرب على الإسرائيليين. ومع تركيز الولايات المتحدة جهودها على مسألة التنافس الاستراتيجي بمواجهة الصين وعلى الحرب في أوكرانيا، توقعت إيران من واشنطن تسريع انسحابها من المنطقة.
لقد أخطأ السنوار تماماً في تقدير التطورات الإقليمية
رد الفعل الإسرائيلي الأولي تجاه استراتيجية “حزب الله – إيران” جاء حذراً، إذ أخلت إسرائيل سكان مناطقها الشمالية لخلق منطقة أمنية عازلة عوضاً عن اجتياح لبنان لمواجهة هجمات صواريخ “حزب الله” مباشرة، مما سمح للحزب عملياً بمتابعة هجماته.
إلى ذلك، وعلى رغم أن الولايات المتحدة دعمت إسرائيل علناً، فإن الحكومات الغربية فشلت على نحو كبير بفرض أكلاف باهظة على محور المقاومة المدعوم من إيران. عجز تلك الحكومات عن منع جماعة الحوثي المسلحة في اليمن من التدخل بخطوط النقل في البحر الأحمر شجع الجماعة المذكورة على تصعيد هجماتها ضد إسرائيل. وأدى الضغط الدولي إلى تقييد قدرة إسرائيل لإلحاق هزيمة ساحقة بـ”حماس”، مما أحيا آمال السنوار بأن إسرائيل لن تتمكن من مواصلة القتال لفترة طويلة.
هذه العوامل كلها اجتمعت لتكوين تصور عند إيران وحلفائها يرى أن إسرائيل قد تجد نفسها في النهاية معزولة ومستنزفة اقتصادياً وفي حال إنهاك. وقد تعززت تلك الفكرة في أبريل (نيسان)، عندما نفذت إيران هجوماً غير مسبوق بالصواريخ والمسيرات من أراضيها ضد إسرائيل.
واحتفى القادة الإيرانيون حينها بالرد الإسرائيلي المحسوب والمحدود – وبالاضطراب السياسي المتواصل داخل إسرائيل. فحكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو انتهجت سياسات تطيل أمد الحرب وأرهقت الاقتصاد وزادت الاستقطاب داخل المجتمع الإسرائيلي، مانحة فرص المبادرة لأعداء إسرائيل.
وفي المقابل تابعت الولايات المتحدة انتهاج استراتيجية للشرق الأوسط عمادها اتفاقات أبراهام، التي طبعت العلاقات بين إسرائيل من جهة، وبين البحرين، والمغرب، والإمارات العربية المتحدة. وقد ضغطت واشنطن بعد السابع من أكتوبر على السعودية لإنجاز معاهدة دفاعية مشروطة بالتطبيع مع إسرائيل، وعاودت تأكيد قناعتها بحل الدولتين لإنهاء النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني.
وسعت إدارة بايدن في السياق نفسه إلى الاستفادة من الحرب بغية خلق تحالف مؤيد لأميركا في الشرق الأوسط، وتعويم نفوذ واشنطن وخلق مركز اقتصادي إقليمي أكثر تكاملاً يربط أوروبا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ، وذلك بإطار تنافسها مع الصين.
لكن الخطة الأميركية فشلت في التعامل المناسب مع الأخطار الناتجة من مجازفات إيران، وهي لم تنجح في تهدئة مخاوف شركاء الولايات المتحدة الآخرين. وامتنعت السعودية عن تطبيع العلاقات مع إسرائيل في ظل استمرار الحرب في غزة، خصوصاً مع رفض إسرائيل التزام مبدأ حل الدولتين – الخطوة التي جرى تأويلها من قبل أعداء إسرائيل في المنطقة على أنها انتصار لـ”حماس”.
أما نتنياهو من جهته فقد اختار تأخير إنهاء المرحلة المكثفة من الحرب، مفضلاً انتظار نتائج الانتخابات الأميركية على أمل انتصار الجمهوريين، إذ رأى أن انتخاب ترمب سيخفف الرقابة الأميركية على الحملة الإسرائيلية ضد “حماس”.
ومع خسارة الديمقراطيين الانتخابات في نوفمبر (تشرين الثاني)، باتت استراتيجية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط محاطة بالشكوك. فعلى رغم كل قوة واشنطن ونفوذها، أثبت التصور الأميركي لنظام إقليمي جديد، التصور الذي ربما بدا معقولاً ومنطقياً، عدم أهليته، وذلك مثل تصورات “حماس” و”حزب الله” وإيران.
عرش خاو؟
في سبتمبر (أيلول) بدأت الرياح التي تهب على الشرق الأوسط بتحويل وجهتها، إذ بعد مرور 11 شهراً من دون أن تحدد الحكومة الإسرائيلية أي أهداف مرجوة على المسرح الشمالي، أعلن مجلس الوزراء الإسرائيلي عن إضافة مهمة إعادة سكان شمال إسرائيل إلى منازلهم كهدف رسمي من أهداف الحرب (مع “حزب الله”).
وكانت تلك الحرب قد بدأت سلفاً بالاحتدام شمالاً إثر هجوم “حزب الله” الصاروخي في أواخر يوليو (تموز) على ملعب لكرة القدم في مرتفعات الجولان، الهجوم الذي أدى إلى مقتل 12 طفلاً وجرح أكثر من 40 آخرين.
وفي رد فعل على الهجوم المذكور اغتالت إسرائيل الرجل الثاني في “حزب الله” بعد زعيمه حسن نصرالله، فؤاد شكر، واستهدفت مركز قيادة “حزب الله” بعملية مهينة، إذ جرى في وقت متزامن تفجير عبوات مزروعة بأجهزة “البيجر” التي يعتمدها الحزب في اتصالاته، مما أدى إلى قتل وتشويه العشرات من عناصره، ثم أطلقت إسرائيل سلسلة من الغارات الجوية دمرت قرابة 3 آلاف صاروخ بينها صواريخ كروز، كما أجهزت على قيادة “حزب الله”، بمن فيهم نصرالله نفسه. تلك العمليات رممت شيئاً من هيبة جيش الدفاع الإسرائيلي التي كانت مفقودة.
وللرد على ذلك، نفذت إيران هجوماً مباشراً على إسرائيل في يوم الأول من أكتوبر فأطلقت 181 صاروخاً باليستياً على الأراضي الإسرائيلية. لكن تلك العاصفة من الصواريخ لم تحدث سوى أضرار محدودة في ثلاثة مواقع إسرائيلية: مجمع جهاز الموساد في غليلوت، وقاعدتين لسلاح الجو الإسرائيلي في الجنوب. بعدها نظمت إسرائيل رداً أكبر من الرد الذي كانت قد نفذته في أبريل، فأرسلت 150 طائرة حربية لضرب 20 هدفاً مهماً داخل إيران.
وقد أظهرت هذه الهجمات المتبادلة الفارق الكبير بين قدرات البلدين العسكرية. فإيران أطلقت كثيراً من الصواريخ وكانت نتائجها محدودة، فيما ضرب جيش الدفاع الإسرائيلي وبدقة عالية أهدافاً شديدة الأهمية، بينها أنظمة صواريخ “أس – 300” التي تملكها إيران ومنشأة أبحاث للأسلحة النووية في بارتشين. وكشفت تلك الحملة عن هشاشة مواقع الطاقة والمنشآت النووية الأهم في إيران إن قام النظام الإيراني باختيار مزيد من التصعيد. ومنذ ذلك الحين، على رغم التهديدات المتكررة، لم تنفذ إيران أي هجوم مباشر على إسرائيل.
وفي الـ24 من نوفمبر وقعت إسرائيل ولبنان، بموافقة من إيران و”حزب الله”، اتفاقاً لوقف إطلاق النار، ما زال صامداً إلى حد كبير. وفي ذاك اليوم نفسه بدأ متمردون سوريون مدعومون من تركيا عملية عسكرية ضد نظام الأسد.
وبأقل من أسبوعين وصل المتمردون إلى دمشق وأعلنوا قيام حكومة جديدة، وذلك من دون أن يواجهوا أي مقاومة من القوات الحكومية السورية أو من قبل الروس والإيرانيين وقوات “حزب الله”. وهكذا، بدل تعزيز هيمنة إيران وتثبيتها، أدت الحرب إلى إلحاق ضربة كبيرة بموقع الإيرانيين في المنطقة.
إن وقف إطلاق النار في لبنان ومستجدات الوضع في سوريا خلقا فراغاً في زعامة الشرق الأوسط. وقد طرحت الإنجازات العسكرية التي حققتها إسرائيل فرصة لإقامة تحالف جديد قادر على إعادة تشكيل مستقبل المنطقة وإتاحة واقع بديل يسوده السلام والاستقرار والازدهار.
تحالف الإرادات
على إسرائيل البناء على انتصاراتها الميدانية هذه، وذلك عبر بلورة وانتهاج رؤية استراتيجية متماسكة لتحالف إقليمي من المعتدلين. وعليها معالجة عدد من التهديدات الأمنية الأساس، أولها إيران، وتقديم جبهة موحدة في مواجهة محاولات تركيا وقطر تعزيز نفوذ الإخوان المسلمين في العالم العربي، وهي المهمة التي زاد من أهميتها انهيار نظام الأسد. وأخيراً، على هذا التحالف أن يقدم للفلسطينيين مستقبلاً سياسياً بموازاة ضمان أمن إسرائيل وحمايتها من أي هجمات إرهابية مستقبلية.
إسرائيل اليوم في موقع صلب يسمح لها بتحقيق تقدم ملموس يجعل هذه النتائج مثمرة. لكنها لن تستطيع القيام بذلك بمفردها. فهي تحتاج إلى الولايات المتحدة كي تقود الجهود المتشعبة والمعقدة، كما تحتاج إلى شراكة عربية تضفي شرعية على الواقع الجديد في الشرق الأوسط وتحول هذه الرؤية إلى قوة إقليمية فاعلة. وتتمثل الخطوة الأولى في هذا الاتجاه بقيام إسرائيل بعقد اجتماع قمة مع الولايات المتحدة والدول العربية البارزة، وكل لاعب آخر طامح للمساهمة في إعادة تشكيل الشرق الأوسط، وهذا يتضمن ممثلين عن الفلسطينيين، وذلك في عاصمة أساس في الشرق الأوسط، كالرياض.
أهداف هذه القمة ستتضمن إنشاء تحالف أميركي – عربي – إسرائيلي يستند إلى رؤية إقليمية، وخلق إطار عمل أمني إقليمي، ووضع خريطة طريق لغزة من دون “حماس” عبر حملة لمكافحة التطرف. وعلى الخطة أن تهدف أيضاً إلى زيادة حضور وتأثير دول الخليج العربي في سوريا بغية تقليص تأثير إيران والإخوان المسلمين في هذا البلد.
كذلك على هذه الرؤية الإقليمية أن تتضمن مكوناً فلسطينياً، يتبلور بعد التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار في غزة يتيح عودة جميع الرهائن الإسرائيليين. وعلى اجتماع القمة هذا أن يؤسس مستقبلاً سياسياً للفلسطينيين يختلف عن مقاربات الماضي المعتمدة من قبل الولايات المتحدة والدول العربية، والتي ركزت على حل الدولتين، إذ بدل هذه المقاربة، على التحالف الجديد أن يشدد على مرحلة انتقالية مرنة وبعيدة المدى يظهر الفلسطينيون خلالها حوكمة فعالة، ويعملون بكد للقضاء على نفوذ الفئات الأكثر تطرفاً في المجتمع الفلسطيني.
إسرائيل اليوم في موقع صلب لتحقيق تقدم ملموس يجعل هذه النتائج التي ظهرت على الأرض تأتي بثمارها
وعلاوة على ذلك، يتعين على الزعماء العرب أن يتفقوا على أن عملية إعادة إعمار غزة من جانب التحالف لن تبدأ إلا بعد نزع السلاح بالكامل من القطاع، وعند هذه النقطة يتعين على إسرائيل أن تلتزم انسحاب جيش الدفاع الإسرائيلي. وقبل أن يحين هذا الأمر، على الجيش الإسرائيلي أن يحتفظ بقدرته على إقامة منطقة أمنية عازلة داخل غزة وعلى طول الحدود مع إسرائيل لمنع أي احتمال في أن تقوم “حماس” بإعادة بناء قدراتها العسكرية.
والولايات المتحدة من جهتها ينبغي أن تشرف على المرحلة الانتقالية التي ستمارس فيها، وبرقابة جيدة، حوكمة فعالة في غزة من قبل هيئة فلسطينية يقودها العرب تعترف بإسرائيل كدولة يهودية، وتقضي على الإرهاب، وتوقف المكافآت المالية للإرهابيين، وتروج لمكافحة التطرف داخل المجتمع الفلسطيني كما في المنابر الدولية. وعلى واشنطن أيضاً أن تعمل مع الدولة المصرية لوضع استراتيجية لتأمين حدود غزة مع مصر لمنع إعادة تسلح “حماس”.
هذه الشروط الإسرائيلية ستتماشى مع مصالح الولايات المتحدة والدول العربية، خصوصاً دول الخليج، التي تسعى إلى إنهاء حرب غزة وتدرك أن مسألة الدولة الفلسطينية القابلة للحياة هي مسألة غير واقعية في الوقت الراهن، لكنها تدرك أيضاً أهمية منح الفلسطينيين أفقاً سياسياً لتطوير الأهداف الإقليمية، مثل مواجهة إيران، ومكافحة الإخوان المسلمين، وتعزيز التعاون الاقتصادي والتكنولوجي مع إسرائيل.
واجتماع القمة المذكور ينبغي أن يهدف إلى تسريع تبلور بناء دفاعي إقليمي دائم، إذ إن قوى هذا الحلف بإمرة القيادة المركزية الأميركية، والجيش الإسرائيلي، وجيوش دول عربية، ستتولى مسائل الدفاع الجوي والصاروخي، وتعمل على تأمين خطوط الملاحة البحرية، والتصدي لإرهاب المتطرفين الشيعة والسنة، وتعزيز التبادل الاستخباراتي. وعلى إسرائيل والولايات المتحدة أن تبذلا جهداً كبيراً خاصاً لمواءمة استراتيجيتهما لمنع إيران من امتلاك أسلحة نووية، إذ إن الأهمية باتت متزايدة اليوم لقيام ردع موثوق، لأن إضعاف شبكة وكلاء إيران في المنطقة يجعل التسلح النووي خياراً أكثر جاذبية بالنسبة إلى الجمهورية الإسلامية.
على الموجة نفسها
إن من مصلحة إسرائيل وشركائها الإقليميين أن تبقى إدارة ترمب القادمة ملتزمة الشرق الأوسط ومستعدة لاستخدام القوة لضمان أمن حلفائها وردع خصومها وخصومهم المشتركين. التزام الدفاع عن المنطقة هذا قد يواجه معارضة من أطراف داخل الإدارة الأميركية ممن دعوا إلى تقليص تدخلات الولايات المتحدة الدولية. وكان ترمب أشار إلى أن الولايات المتحدة لن تتدخل في سوريا، كما عبر عن رغبة في استكمال سحب القوات الأميركية من هذا البلد حين يكون موقع روسيا وإيران قد ضعف هناك.
لقد جاء هجوم “حماس” الصادم في السابع من أكتوبر 2023 ليثبت أن تحكم إسرائيل بمسار الأحداث في منطقتها هو أقل بكثير مما كانت تتخيله. والحرب الإسرائيلية التي تلت في غزة، وطوال عام كامل، دعمت هذا التفسير. إلا أن إسرائيل خلال الأشهر الثلاثة الماضية أعادت تأكيد قدرتها على تشكيل سياسات الشرق الأوسط وأمنه. لكن من دون قيادة شجاعة يمكن لتلك الفرصة أن تتبدد، إذ إن تطلعات متطرفي ائتلاف نتنياهو لضم أجزاء من غزة والضفة الغربية، أو لفرض حكم عسكري في غزة، أو اتباع نهج داخلي استقطابي يضعف المؤسسات الديمقراطية، من شأنها خلخلة هذا التقدم الذي تحقق.
أي حكومة إسرائيلية تطور تلك الرؤية المقترحة ستحظى بدعم غالبية مواطنيها، وهي على الأرجح ستعزز موقف إسرائيل الإقليمي. في المقابل، فإن الحكومة التي لا تعمل على كبح خطابها الحاد وأفعالها المتطرفة لن تمهد الطريق إلا لصراع إقليمي أوسع ليس له نتائج نهائية واقعية – ويكون عرضة لتلاعب أيدي النظام الإيراني.
السنوار وقادة إيران أدركوا قدرة الحرب على إعادة تشكيل الشرق الأوسط. على إسرائيل ألا ترضى بأقل من هذا الأمر. لكن عليها استخدام قوتها بسرعة وحكمة. وحدها رؤية للمنطقة تتصدى لتهديدات إيران وتعزز التكامل الإقليمي، وتؤسس لأفق سياسي للفلسطينيين، وتواكبها خطة منسقة تدعمها الولايات المتحدة ودول عربية بارزة، يمكنها الاستفادة من النجاح العسكري الإسرائيلي ضد إيران للوصول إلى شرق أوسط أكثر استقراراً وسلاماً وازدهاراً والبناء على الفرص التي ستظهر في أعقاب الحرب.
عاموس يدلين مؤسس ورئيس شركة “مايند” MIND إسرائيل للاستشارات. جنرال متقاعد من قوات سلاح الجو الإسرائيلي وخدم رئيساً لاستخبارات الدفاع الإسرائيلية من 2006 إلى 2020.
أفنير غولوف نائب رئيس “مايند” إسرائيل. وكان مديراً رفيعاً في مجلس الأمن القومي الإسرائيلي من عام 2018 لغاية 2023.
مترجم عن “فورين أفيرز” – اندبندت عربية