ملاحظات كوبية (2 من 2)
بقلم: عاطف أبو سيف
ارتبطت كوبا في الوعي العام بثورتها التي قادها كاسترو وساعده فيها ثلة من المناضلين الأمميين وأشهرهم تشي جيفارا.
وربما لا يحظى شخص في القرن العشرين بشهرة كتلك التي يحظى بها جيفارا المقاتل الأرجنتيني الذي انتقل من بلد لآخر يناصر الضعفاء ويقاتل من أجل قضاياهم.
وربما أن الصورة الأشهر لجيفارا هي تلك خلال معارك تحرير كوبا وهو يدخن السيجار الكوبي الشهير.
وعند ذكر جيفارا ومعركة سانتا كلارا فإن أحد رفقاء جيفارا في تحرير المدينة هو الفلسطيني أنطونيو مانويل كارو وهو الاسم الكوبي للفلسطيني أنطونيو جميل سليم المولود في بوغوتا العام 1909 لعائلة هاجرت من بيت لحم. ثمة كتاب للدكتور سميح مسعود يروي فيه أنطونيو التلحمي قصة كفاحه الأممي.
بيد أن الارتباط الأكبر لكوبا في الوعي الشعبي بعد ذلك كان في صراعها في وجه الولايات المتحدة التي رأت في انتصار ثورة كاسترو وجيفارا تحدياً كبيراً لهيمنتها على القارة تشكل حديقة بيتها الخلفية.
ليس ثمة عدو لواشنطن أكثر خطورة من هافانا التي حاصرتها منذ اللحظة الأولى لانتصار الثورة التي أطاحت بأحد أهم حلفائها وعملت كل جهدها من أجل تركيعها من خلال الحصار الاقتصادي والمالي.
ولما كانت سواحل كوبا تبعد عشرات الأميال فقط عن السواحل الأميركية فإن الصراع بين الجارين كان حاداً وكاد يودي بالعالم إلى حرب عالمية ثالثة خاصة خلال فترة حكم كينيدي أو ما تعرف بأزمة الصواريخ الكوبية أو خليج الخنازير.
كاد العالم ينفجر وكادت حرب عالمية تندلع لولا الأقدار التي حمت البشرية من شرورها.
وطوال ستين عاماً واصلت واشنطن واستخباراتها العمل ليل نهار من أجل محاربة النظام في كوبا.
وبرز اسم كاسترو كأكثر الأسماء الدالة على العداء لسياسات واشنطن وتحول كاسترو لرمز من رموز النضال الأممي ضد الظلم والبطش والاستعمار، وهو بدوره لم يتوانَ عن تقديم المساعدة لكل الشعوب التي كانت تناضل من أجل الحرية.
جيفارا بدوره بعد استتباب الوضع في كوبا ترك وزارة الخزينة والبنك المركزي وذهب ليناصر ثورات أخرى في الكونغو، حيث لم تنجح الثورة وفي بوليفيا التي كان يحلم بنقل الثورة إليها منذ وطئت قدماه سانتا كلارا لكنه استشهد هناك دون أن يحققها.
لاحظ أن نظرات تشي في التمثال الضخم في النصب التذكاري التخليدي له في سانتا كلارا تكون موجهة جهة التلال حيث شواطئ بوليفيا.
ومع هذا لا تجد ميداناً واحداً في هافانا يحمل اسم كاسترو. أيضاً لن تجد شارعاً أو جامعة أو مدرسة أو مطاراً. كانت إحدى وصايا فيديل ألا يتم إطلاق اسمه على شارع أو وضع تمثال له في الميادين العامة وهو الذي خلد ذكرى رفاقه كلهم وخلد ذكرى كل أبطال كوبا.
ومع هذا فأنت تجد فيديل في كل مكان في كوبا. يصعب ألا ينطق اسمه مواطن كوبي مرة واحدة على الأقل في اليوم.
ثمة هالة وقداسة كبيرة ترتبط بالاسم الذي هيمن على المشهد السياسي الكوبي لقرابة نصف قرن من الزمن بلا ملل ولا كلل ولا تراجع ولا استسلام.
لم تقدم كوبا للعالم فقط ثورتها وصراعها ضد جبروت واشنطن، بل ساهمت بقوة في الثقافة اللاتينية خاصة في مجال الموسيقى وتطويرها كما في مجال الأدب الحديث كما كانت قصص الهجرة الكوبية غير الشرعية للسواحل الأميركية جزءاً أساساً في قصص هوليوود وبعض الأفلام حولها كانت علامات فارقة في تطورها.
الفندق الذي نزلنا فيه “جراند” تجد صوراً لشخصيات كبرى نامت فيه من تشرشل حتى مارون براندو بطل فيلم العرّاب حيث تم تصوير اجتماع المافيا في كازينو الفندق.
كما أن الكثير من نجوم هوليوود ينحدرون من أصول كوبية ربما أشهرهن أندي جارسيا والنجمة الصاعدة آنا دي أرماس.
وحين نتحدث عن الثورة الفلسطينية وعلاقة كاسترو بها فإن الحديث يطول كثيراً.
فعلاقة الرجل مع الزعيم ياسر عرفات أكثر من أن يتم سردها في مقالة.
كان كاسترو يحب فلسطين ويعتبر ثورتها امتداداً لثورة كوبا ولكل ثورات المظلومين على الأرض. كنا نسير ونطوف في شوارع هافانا حين أطل وجه ياسر عرفات شامخاً وقد نحته فنان كوبي يعتلي خارطة فلسطين المنحوتة من الصخر، وكانت كوفية عرفات تشير بقوة لقوة حضور فلسطين في وعي الشعب الكوبي.
أنت لست بحاجة لأن تشرح شيئاً عن فلسطين فهناك من سيبدأ بالقول لك: إننا معكم ونحن واحد. كلمات لا تقع في باب التشجيع والمؤازرة بل هي كلمات تم تجسيدها طوال عقود من العلاقات التاريخية بين الشعبين والثورتين والقيادتين وخلال كل ما قدمت كوبا للثورة من دعم وإسناد في السبعينيات والثمانينيات وما تواصل تقديمه في مجال التعليم مثلاً.
وبخصوص التعليم فإن كاسترو اعتقد أن التعليم هو السلاح الأهم في تجاوز الحصار الأميركي فأقام الجامعات في كل المدن إذ قلما تجد مدينة بلا جامعة وطور من جودته فمثلاً الطب في كوبا من أقوى التخصصات عالمياً. كوبا تصدر الأطباء لدول الجوار مثلاً كان هناك عشرة آلاف طبيب كوبي يخدمون في المستشفيات البرازيلية وحدها ضمن اتفاق مع الحكومة الكوبية.
كان لهذا التركيز على المدى البعيد أثر سلبي على الزراعة التي بدأت بالتآكل مع سنوات الحصار وهجر الأراضي لصالح الدراسة الجامعية، وبالتالي ساعد هذا عكسياً على اشتداد الحصار على الجزيرة التي تقف شوكة في خاصرة الولايات المتحدة.
وهو الأثر الذي سيظهر مع توقف توريد السماد ومستلزمات الزراعة وبالتالي سينتج عنه نقص في المواد الغذائية الأساسية خاصة مع تراجع دعم وإسناد الأصدقاء والحلفاء مع تراجعهم أصلاً. وهذا جانب سنتناوله في الجزء الثالث من هذه الملاحظات الكوبية.