مكالمة قبل الموت بين أحلام الصحفية علا دحدوح وزجاج لحم طفل فداء حلس
– كتب محمد اللحام – رئيس لجنة الحريات بنقابة الصحفيين الفلسطينيين –
لم تكن الدنيا تتسع فرحتها عندما عادت علا للوطن وهي المولودة في الإمارات العربية وتلامس اقدامها تراب غزة بالعام 2006، وتذهب نحو حلمها في دراسة مطاردة الخبر ونقل هم وهمة فلسطين للعالم .
والتحقت بالمعهد ودرست الإعلام والعلاقات العامة وتكمل في جامعة الأزهر البكالوريوس في الإعلام والاتصال الجماهيري، كما كان لديها شغف كبير للعمل الإعلامي من خلال الكتابة والوقوف أمام الكاميرا وكذلك العمل الإذاعي الذي التحقت به من خلال إذاعة صوت الوطن في غزة كمحررة ومقدمة أخبار وبرامج .
وكانت الفرحة الكبيرة لعلا دحدوح حين صدر لها لم الشمل، وحصولها على بطاقة هوية فلسطينية وجواز سفر فلسطيني، كما عملت حفلة كبيرة مع مأكولات ومشروبات طيبة دعت اليها الاهل والصديقات وهي في قمة الفرح تخطط لاستثمار جواز السفر بمشوار خارج عنق الزجاجة ” غزة”.
ومع اشتداد القصف في الحرب التي شنتها اسرائيل على قطاع غزة في 7 اكتوبر من العام الماضي، كانت علا تتمنى الوصول لمقر الاذاعة لتسمع العالم عبر الاثير حجم الجرح والأنين، ولكن موقع الاذاعة تم تدميره واستهدفت منطقة شارع الجلاء وحتى مدرسة ابن عمار القريبة تم تدميرها بفعل أحزمة نارية وتفجيرات وصواريخ كان صوتها أعلى بكثير من احلام علا وصوتها الذي خفت حيث عملت على إنتاج بعض التقرير من البيت.
الصديقة المقربة لعلا هي الصحفية فداء حلس مراسلة فضائية ووكالة معا نجحت بالحديث معها بعد محاولات عديدة لصعوبة الاتصال وذلك لتقديم واجب العزاء لها بفقدان الأحبة .
في حديثنا عبر الهاتف تقول: “كانت علا اعز الصديقات وتوأم الروح ومن كثر حبي لها وتعلقي بها ساهمت في ارتباطها بالزواج من ابن خالي لكي تبقى بالقرب مني ” وكنت اتخايل الدموع الممزوجة بالابتسامة وهي تقول لي “انا خطبتها لابن خالي حبيبتي” .
وعائلة فداء حلس تسكن مدينة غزة وغادرتها بعد اسبوع من الحرب لخطورة الوضع هناك واشتداد القصف وتستقر في مدرسة تتبع وكالة الغوث في دير البلح وبعد 27 يوما، كما قررت العائلة العودة للمنزل على امل ان الامور اصبحت افضل ويمكن العيش بالمكان ولكن الاحتلال صعد من هجماته على منطقة المنزل بأحزمة نارية مرعبة وصواريخ وقذائف مدفعية، لم يكن معها سوى قرار النزوح من جديد الى مدرسة وكالة الغوث بدير البلح لعلها تستر انين النزوح وخطر الموت المتربص بالجميع .
علا كانت تسكن منطقة الزيتون وزوجها من الشجاعية، وقد انجبا طفلا وحيدا اسمته كرم، ومنذ نحو شهرين ونصف ومع اشتداد القصف على الشجاعية وعلى الزيتون انتقلت علا وزوجها للعيش في بيت عائلة فداء المكون من طابقين، وخاصة ان جيش الاحتلال قطع الطرق بين شمال ووسط قطاع غزة ومنع عودة النازحين مما منع امكانية عودة عائلة فداء للمنزل .
كانت علا فرحة رغم حجم المأساة المحيطة بها حين وصل للعيش عندها والديها وإخوتها وأختها وأبنائهم إلا انهم وبعد اسبوع قرروا المغادرة بحثا عن مكان أكثر امانا رغم انعدام الامان في كل الأماكن .
أما فداء فقد انشطر قلبها على الانشطارات في جلد ابنها الرضيع حين كانت تمكث مع زوجها في منطقة الفالوجة بجباليا وقصف المكان لتركض الى رضيعها الصغير بعمر 12 يوما والذي اعتقدت انها حصنته في غرفة لم يصمد زجاجها أمام القصف حيث صرخت من صدمة مشاهدتها كم الزجاج الذي جرح جلد صغيرها الندي الطري ولم تسمع صوت الصواريخ بمقدار لهفتها لسماع صراخ طفلها لتقطع الشك باليقين انه على قيد الحياة وأصبح لا بد من الرحيل والنزوح نحو رفح على أمل ان تكون الخيمة الاخيرة في رقصة الموت التي حصدت نحو 36 ألف انسان حتى اللحظة ولكن هيهات ان يصدق الاحتلال بإعلاناته الكاذبة عن أماكن آمنة حيث تحولت رفح الى مجرة وجمرة من نار محرقة ومجزرة ورحلة نزوح جديدة الى دير البلح حيث تستقر الآن مع زوجها وابنها .
المكالمة الأخيرة كانت بين فداء وعلا في تمام الساعة 19:12 تقريبا من مساء الجمعة، حيث اخبرت علا صديقتها فداء انها تعلمت طبخ اكلات جديدة ووجب التخطيط لتنفيذها وترتيب قائمة المدعوين لها وكانت متذمرة ومتضايقة من نفاذ وفقدان المواد الغذائية وانها تكافح لتوفير المواد الغذائية الاساسية لطفلها كرم حتى لو وصل طبق البيض الى 200 شيكل “60 دولار” فلا خيارات أمامها لسد جوع طفلها .
وعادت علا في تلك المكالمة لتعبر عن تجدد امنياتها بالسفر وقالت ” يا فداء ابني كرم الان كبر وزاد عمره عن سنة وانتي متذكرة لما كنت اقولك بزبطش اسافر مع كرم وهو أقل من سنة ولما يمشي كرم بسافر معه لأنه أسهل وفي الحرب طبق السنة والآن صار سنة و6 شهور وما شاء الله بمشي على الأرض منيح وما رح اتغلب فيه على المعابر والحواجز والمطارات وان كل المؤشرات تقول بإمكانية وقف الحرب وستصبح امور السفر اسهل وسأحقق حلمي باصطحاب ابني وزوجي لسفرة جميلة بعد هذا العذاب الشديد” .
بعد ساعات من هذه المكالمة وقبل بزوغ نهار السبت 1/6/2024 كان الصاروخ الاسرائيلي يبزغ مسرعا ومحولا بيت عائلة فداء التي تسكنه توأم روحها الى دمار كبير مخلفا غيمة من دخان ونار ما انقشعت إلا وهي مخلفة حقيقة سفر علا ولكن ليس للأماكن التي كانت تخطط السفر إليها بل صعدت روحها الى رب العالمين بجسم مليء بشظايا صواريخ مزقته دون ان ترحم زوجها الذي ما زالت حياته مهددة بفعل الإصابات الدامية الخطيرة دون توفر علاج بفعل تدمير الاحتلال المستشفيات وعدم السماح بدخول الأدوية وقتل الطواقم الطبية .
اما كرم طفل احلام امه المسافرة مع عام ونصف تقريبا من هذه الحياة على ارض المحرقة في غزة فلم يعد يمشي وفقد السير على قدميه نتيجة حجم شظايا الصواريخ التي لم ترحم لحمه الغض الذي حاولت والدته حمايته حتى بجسدها الذي رحل .
كرم على سرير العلاج مع جروح دامية في قدميه على أمل ان يقف يوما ويركض مع باقة ورد نحو قبر أمه التي أحبته حد الجنون مع أحلام طائرة به نحو مستقبل خططت له كثيرا دون ان تعلم ان خطط الاحتلال الإسرائيلي سوف توأد احلامها وتقبرها بهذا الكم من البارود .
كانت علا في الطابق الثاني تعيش مع زوجها وطفلها وكان عم فداء المدرس المتقاعد عبد الرحمن ناهض حلس 72 عاما يعيش في الطابق الأول من البيت ليطاله ايضا صاروخ الاحتلال وينتقل لرب العالمين مع اصابات دامية للعديد من الأهل في البيت .
علا قصة صحفية تختزل قصص نحو 140 من الصحفيين الذين رحلوا مع أحلام كبيرة بفعل اختزال الاحتلال لحياتهم بينما تواصل فداء مع طفلها المجروح وروحها الحزينة على فقدان الصديقة والعم الأكبر وبيت العائلة المدمر مع مئات الصحفيين مشوار النزوح والبحث عن الحياة والأمان أكثر من البحث عن العمل الذي أصبح مقبرة مع كثير من الذكريات المجروحة والحزينة وأحلام تنتظر الإقلاع ولكن دون معرفة الى أين .