
من الطبيعي أن يتظاهر من يعاني من جريمة الإبادة والتهجير والتدمير الشامل، خاصة أن معظم قطاع غزة أصبح غير قابل للحياة بعد الحصار الخانق وغير المسبوق.
ومن الطبيعي أن تنال حركة حماس ليس بوصفها حركة مقاومة بل بوصفها السلطة الحاكمة في قطاع غزة حصتها من الغضب الشعبي، فهي جسدت حكمًا فئويًا قمعيًا ومن دون رقابة ولا مساءلة ولا محاسبة ولا مشاركة شعبية، وعليها أن تفهم الدوافع من وراء التظاهر ضدها، وتلبي ما يمكن تلبيته من مطالب المتظاهرين الغاضبين.
مروحة المطالب المقدمة إلى حماس واسعة، وهي تقدم من شريحة كبيرة من الشعب وليس من كل أو معظم الشعب، وهذا يعكس التعددية الفلسطينية مصدر قوة ومناعة واستمرار القضية الفلسطينية، فهناك أيضا شريحة كبيرة من الشعب تدعم حماس، وتبدأ بمطالبة بعض المتظاهرين لحماس الذين انطلقوا من بيت لاهيا وامتدت بعد ذلك في عدة مناطق، بإبداء الاستعداد الجدي للتخلي عن حكم قطاع غزة، وذلك لسحب الذرائع والمبررات من الاحتلال الذي يدعي عبر حكومته أن إنهاء حكم حماس سيؤدي إلى وقف الإبادة الجماعية، إذا ترافق مع الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين، وضمان ألا يبقى قطاع غزة مصدرًا للتهديد، مع أن الأهداف الحقيقية أكبر بكثير كما أوضح نتنياهو يوم الأحد الماضي حين وضع شروطا تعجيزية لإتفاق وقف النار منها المضي بتهجير أهل القطاع، أي تصل الشروط الإسرائيلية إلى التهجير والضم، كما أن تخلي حماس عن الحكم أصبح مطلوبا من أجل سحب الذرائع من الأطراف الإقليمية والدولية التي أعلنت عدم استعدادها لتمويل إعادة الإعمار إذا استمرت حماس سلطة الأمر الواقع في قطاع غزة، لأن هذا يمكن أن يؤدي إلى عدوان إسرائيلي جديد يدمر ما يتم إعادة بنائه وإعماره.
والسؤال الذي يطرح نفسه هل المطلب عادلٌ بإنهاء حكم حماس من دون توافق وطني شامل أو بلا إجراء انتخابات يختار فيها الشعب الفلسطيني من يمثله؟ طبعًا، لا، بل يعدُّ استمرارًا وانعكاسًا لتخلي الأطراف العربية والإقليمية والدولية والمجتمع الدولي عن مسؤولياته، التي تفرض إلزام دولة الاحتلال بوقف الإبادة وتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير مصيره وفقًا لما يحدده القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، ولكن رغم ظلمه يجب تحقيقه لأن الحكمة تقتضي ذلك حتى لا تتحمل المقاومة أي قدر من المسؤوليةعن استمرار جريمة الإبادة الجماعية.
تأسيسًا على ما سبق، وعلى الرغم من أن حماس من حقها أن تشارك في الحكم كونها فازت في آخر انتخابات بالأغلبية، غير أنها لم تمكّن من الحكم منفردة عندما شكلت حكومتها، و لم تمكّن من الحكم بعد مشاركتها في حكومة الوحدة الوطنية، ما دفعها إلى تنفيذ انقلاب سيطرت فيه على الحكم في قطاع غزة، وهذه جريمة لا تغتفر رغم شروطها التخفيفية النابعة من كونها كانت قد فازت بالانتخابات ولم تمكن من الحكم من الاحتلال وأطراف داخلية وخارجية.
والحق يقال أن حماس أبدت استعدادًا لمشاركة الآخرين بالحكم من خلال حكومة وفاق وطني بعد أن عجزت عن الحكم بمفردها وواجهت صعوبات جمة بالحكم في ظل الحصار والمقاطعة، كما وافقت على الاحتكام إلى الشعب بالانتخابات، خصوصًا في عام 2021، عندما كنا على أبواب الانتخابات قبل إلغائها بقرار انفرادي من الرئيس محمود عباس.
لو جرت الانتخابات حينها كان من الممكن جدًا ما وصلنا إلى ما نحن فيه الآن. فخطيئة حماس المستمرة أنها أعطت الأولوية لاستمرار سيطرتها الانفرادية على قطاع غزة، ولم تولِ الاهتمام اللازم لوحدة الضفة الغربية وقطاع غزة وإقامة دولة مستقلة فيها مع أنها وافقت على ذلك ولكن هناك فرق جوهري حاسم بين الموافقة على اقامة الدولة وبين اعتبار ذلك الهدف المركزي لهذه المرحلة، ومن أخطائها أنها تصورت أنها بمفردها يمكنها التحرير، أو، وهذا تناقض، على الأقل يمكنها الحصول على الاعتراف العربي والدولي بها وسلطتها، وصولًا إلى الاعتراف بالدولة على قطاع غزة كمرحلة على طريق التحرير.
في هذا السياق كان من أخطاء حماس أنها منذ اندلاع الحرب لم تدرك نتائجها وتداعياتها الفعلية، بل كانت أسيرة الأمنيات والتقديرات الخاطئة، لذلك لم تبدي استعداد للتراجع خطوة أو خطوات إلى الوراء وهذا يختلف تماما عن الاستسلام، ولم توافق بشكل جدي وعملي على ترك الحكم مع أنها أبدت استعدادها الشكلي لذلك من خلال موافقتها في إعلان بكين، في تموز/ يوليو 2024، على تشكيل حكومة وفاق وطني لا تشارك فيها الفصائل، وموافقتها بعد ذلك على تشكيل لجنة إسناد مجتمعي مشكلة من شخصيات مستقلة، والدليل على عدم الجدية أنها قالت في أثناء عمليات التبادل إنها هي اليوم التالي. كما أنها بعد التوصل إلى وقف إطلاق النار أعادت تنظيم حكومتها واللجان المنبثقة منها، وكان بمقدورها أن تفعل ذلك بالشراكة مع الآخرين وهذا يختلف عن دعوتها للإستسلام كما يختلف عن دعوتها لتسليم السلطة للسلطة أو للجامعة العربية لأن دولة الاحتلال احتلت القطاع ولا تخفي نواياها بالبقاء فيه وترفض عودة السلطة الى غزة كما ترفض استلام جامعة الدولة العربية، وصدرت تصريحات وإشارات تدل على أن حماس غير جادة بالتخلي عن الحكم، وأن أقصى ما يمكن أن توافق عليه، أن تغادر الحكومة وتبقى في الحكم، وتجسد صيغة أقرب ما تكون إلى صيغة حزب الله في لبنان قبل الحرب الأخيرة.
وقبل أن ننهي هذه الفقرة لا بد من إكمال الفقرة بالقول إنه لو توفرت الإرادة للرئيس عباس بتشكيل حكومة وفاق وطني لا تشارك فيها حماس ولا الفصائل، لما وصلنا إلى ما نحن فيه.
لا أقلل من مخاوف الرئيس من مخاطر الشراكة مع حماس ورأسها تحت المقصلة، ولكن مخاطر عدم تشكيل حكومة الوفاق، على حماس وفتح وعباس والسلطة والمنظمة ومجمل النظام السياسي والقضية الفلسطينية والشعب أكبر وأعظم. والدليل أن المطروح الآن تصفية القضية الفلسطينية بكل أبعادها عبر التهجير والضم وتصفية قضية اللاجئين، وعبر تشكيل أطر جديدة في قطاع غزة مستقلة فعلًا عن السلطتين لفترة “انتقالية” يتم فيها تجريد السلطة مما تبقى لها من دور سياسي ووطني تحت مسمى “إصلاحها”، وبما يشمل “تجديد” السلطة لتكون قادرة على تلبية متطلبات المرحلة الجديدة، وما يقتضيه ذلك من تجريد الرئيس من صلاحياته خلال ما تبقى من حياته، من خلال تعيين نائب رئيس بشكل لا قانوني ولا شرعي وبدون توافق وطني تنقل إليه صلاحيات الرئيس في حياته، وهذا كله يسير بالتوازي مع عودة نوع من الوصاية الإقليمية والدولية على الفلسطينيين تحظى على الأقل برضا إسرائيل إذا لم يكن بإشرافها.
كان بمقدور القيادة الفلسطينية، ولا يزال، الموافقة على تشكيل حكومة الوفاق، وربط ذلك بإقرار برنامج فلسطيني واستراتيجية فلسطينية وتشكيل قيادة فلسطينية موحدة، تكون مسؤولة عن قرار المقاومة والمفاوضات وتخضع لها كل الأجنحة العسكرية لفصائل المقاومة كما يمكن أيضا أن تدمج في جيش وطني موحد. أما الإصرار على إلحاق حماس بالقيادة آذا أرادت دخول المنظمة عبر فرض الشروط الثمانية التي يكررها الرئيس، والتي من ضمنها استمرار الالتزام بالتزامات اتفاق أوسلو الذي قتلته إسرائيل منذ فترة طويلة، ولم تقم بدفنه وإلغائه رسميًا للإبقاء على الالتزامات الفلسطينية فيه.
من غير الطبيعي أن يُطلب من حماس وكل الفصائل الفلسطينية سحب سلاحها أو مغادرة قيادتها وكوادرها ومقاتليها، لأن هذا لا يمكن أن يحدث إلا بعد إنهاء الاحتلال واستقلال دولة فلسطين، ولأن سحب السلاح سيشجع قوات الاحتلال على ارتكاب مزيد من المجازر، والشروع في تهجير الفلسطينيين، ولنا في التجارب عبرة منذ تسليم السلاح الفلسطيني للجيوش العربية قبل النكبة، وما حدث بارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا بعد انسحاب قيادة ومقاتلي منظمة التحرير من لبنان، وقتل الحكومات الاسرائيلية لإتفاق أوسلو وانتهاء بعدم الالتزام بمواصلة تطبيق اتفاق الهدنة الأخير، وما تشكيل إدارة خاصة من الحكومة الإسرائيلية لتشجيع التهجير إلا دليل دامغ على أن تسليم السلاح ومغادرة حماس للقطاع لا ينهي تنفيذ مخطط تصفية القضية وتهجير أهلها ، ولأن سحب السلاح وطرد المقاومين بمنزلة استسلام، وهو أخطر ما يمكن أن يحدث، كونه يصادر إمكانية استئناف المقاومة في المستقبل، وهو يختلف عن الهزيمة التي يمكن أن تلحق بالمقاومة، ولكن رفض التسليم بالهزيمة ضروري ومهم جدا لأنه يؤسس لانطلاقة فلسطينية جديدة تستوعب دروس وأخطاء الثورات والانتفاضات السابقة وتسير على طريق الانتصار.
ومع ذلك لو كان الاستسلام يؤدي فعلًا إلى وقف الإبادة والتهجير والضم والانسحاب الإسرائيلي وفك الحصار والشروع في إعادة الإعمار فأهلًا وسهلًا به، فليس هناك ما هو أغلى من الإنسان ولكن لا يستطيع أحد أن يضمن ذلك جراء وجود حكومة في إسرائيل تؤمن بقدرتها على إقامة “إسرائيل الكبرى” وحسم الصراع مع الفلسطينيين، من خلال تصفية القضية الفلسطينية، وخلق شرق أوسط جديد تحت الهيمنة الإسرائيلية، ويشجعها وجود إدارة أميركية لا تقل عنها تطرفًا، وهامش الخلاف بينهما ينحصر في اختلاف الأولويات مع وحدة الأهداف الكبرى.
فلسطين تمر بمنعطف تاريخي يتم فيه إما استكمال شطب القضية الفلسطينية ومختلف مكوناتها، بما فيها منظمة التحرير، وتجاوز وحدانية تمثيلها للفلسطينيين والسلطة المجسدة للهوية ووحدة الضفة والقطاع، وإعادة الأمور لما كانت عليه بعد النكبة إذ كانت قضية لاجئين، قضية انسانية شعبها مشرذم بدون هوية وطنية ولا وحدة ولا إطار جامع ولا برنامج مشترك ولا قيادة واحدة.
أو بداية تبني مقاربة جديدة تركز على اولوية التوافق والوحدة في مواجهة المخاطر المشتركة، وعلى جمع أوراق القوة ، والرهان على الذات أولًا، والقيام بما هو مطلوب فلسطينيا ثم بعد ذلك العمل من أجل أوسع دعم وتضامن عربي وإقليمي ودولي بما يمكن من توفير عوامل الصمود والبقاء للقضية وللشعب على أرضة وطنه، بوصف الصمود أعلى أشكال المقاومة في هذه المرحلة، فضلًا عن إحباط مخطط التصفية والإبادة والضم والتهجير على طريق إنجاز حقوق الشعب الفلسطيني وأهدافه الوطنية.