قوة نتنياهو في ضعفه
كتب رجب أبو سرية :
مقاطعة نواب القوة اليهودية لجلسات الكنيست، قد تحول دون قدرة الائتلاف على إقرار مشاريع قوانين، نظرا لأنه بات يفتقد الأغلبية البسيطة في الكنيست، أي 61 نائبا، لكن الحكومة لن تكون معرضة للسقوط، ذلك أن نواب حزب إيتمار بن غفير الستة، يجعلون الائتلاف مقابل المعارضة بنسبة 58 مقابل 56، أي أن المعارضة بمن فيها النواب العرب الذين هم خارج إطاري التشكيل الحكومي اليميني والبديل، لا تتمتع بأغلبية مع مقاطعة نواب الحزب اليميني المتطرف التي تكفي لحجب الثقة عن الحكومة.
لهذا فإن هامش المناورة هذا يسمح لبن غفير وحزبه بأن يواصلا الضغط على نتنياهو و”الليكود”، خاصة مع تبادل أدوار ــ فيما يبدو ــ ما بين بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، الذي صمت إزاء الخلاف بين “القوة اليهودية” و”الليكود”، ذلك لو أنه انضم لشريكه في التطرف، لكانت الحكومة التي ضمتهما معا لأول مرة، أمام احتمال قوي للسقوط، أو على الأقل لاحتمال أن تتحول إلى حكومة تصريف أعمال، في حال تم حل الكنيست الخامس والعشرين.
مع ذلك فإن الوضع ليس مثاليا لليمين المتطرف، الشريك الرئيسي لليكود في الحكم، ذلك أنهما معا، لا يحبذان الذهاب لانتخابات مبكرة للكنيست، ولا في إسقاط الائتلاف، وذلك لسبب بسيط وهو أن مكانة اليمين واليمين المتطرف، التي وصلت الذروة قبل ستة أشهر ومنحتهما التفوق في الانتخابات السابقة، لم تعد كذلك، وخير دليل على ما نقول، هو استطلاعات الرأي، التي تؤكد على أن “الليكود” لن يكون الحزب الأول، كما كان حاله طوال عقدين من الزمان، كذلك لن يظفر الائتلاف الحالي، رغم استقرار قوة الشريك الثالث، الحريدي المكون من حزبي “شاس” و”يهوديت هتوراة”، بالأغلبية التي يتمتع بها حاليا، بل ولا بأي أغلبية، وهو سيتراجع بقوته إلى أكثر من عشرة مقاعد، فيما تشير الاستطلاعات إلى تفوق معسكر الدولة بزعامة بيني غانتس الجنرال السابق، ولهذا دلالته.
أن يصعد حزب غانتس وفق استطلاعات الرأي، على حساب كلا الحزبين المتنافسين، “الليكود” و”ييش عتيد”، يعني بأن الأغلبية الانتخابية التي تنفض عن نتنياهو لا تذهب إلى يائير لابيد، بما يعني أن الجمهور الإسرائيلي، لم يقتنع بلابيد، وقد جربه كرئيس للحكومة، من قبل، ولم ينس أنه هو الذي وضع فوق رؤوسهم واحدا من متطرفي اليمين كرئيس للحكومة، أو بديلا أسوأ عن نتنياهو ــ نقصد نفتالي بينيت، والسبب الأهم بتقديرنا، هو أن الجمهور الصاخب الذي يتظاهر في الشوارع، والذي يشعر بالقلق مما تواجهه إسرائيل من تحديات أمنية في ظل تآكل داخلي، يرى القوة العسكرية في غانتس الذي ما زال يحرص على الظهور بهيئة الجنرال العسكري، كذلك في هذا موقف التضامن من الجمهور مع الجيش، الذي يتعرض بعد القضاء لمحاولة الاحتواء من قبل اليمين الحاكم.
فيما لم يكن نتنياهو ولا في أي حكومة سابقة، حتى وهو رئيس حكومة تصريف أعمال، بمثل هذا الضعف الذي يبدو عليه حاليا، خاصة في قيادة سياسة ثابتة لحكومته في كل الاتجاهات، الداخلية والخارجية. وحتى من داخل “الليكود” بدأت الهمهمات تقول إن الرجل الخبير والمحنك السياسي، بات خاضعا تماما للشريك المتطرف، فقد تحداه كل من بن غفير وسموتريتش، أكثر من مرة، وقد ظهر خلافه معهما في أكثر من مناسبة، خاصة فيما يخص تنازع الصلاحيات بين سموتريتش والليكودي يوآف غالانت وزير الجيش، خاصة في الضفة الغربية والمستوطنات، الأمر الذي وصل حد إقالة نتنياهو لغالانت ومن ثم التراجع، وإن كان ذلك جاء على خلفية رفض غالانت لخطة نتنياهو ــ ياريف ليفين، وفيما يخص محاولة بن غفير الهيمنة على جهاز الشرطة وهو يواجه المتظاهرين في تل أبيب وحيفا وبئر السبع.
وحقيقة الأمر أن نتنياهو قد حصل على ما يريد من هذه الحكومة، ولا يهمه سوى أن تبقى لأطول فترة ممكنة، وهو لم يعد مهتما بمستقبل إسرائيل، ولا حتى بمستقبل حزبه “الليكود” أو اليمين بشكل عام، أي أنه لم يعد مهتما جدا، كما كان حاله سابقا بتحقيق اليمين لنجاحات سياسية، بما في ذلك توسيع دائرة التطبيع، التي يعتبرها أهم منجزاته خلال عشر سنوات مضت، أي طوال فترة حكمه المتواصلة منذ العام 2009، بعد أن نجح في العام 2014 بإغلاق باب التفاوض مع الجانب الفلسطيني، وبالتالي قطع الطريق على تطور الوضع الحالي، على طريق إنهاء الاحتلال وتحول السلطة الفلسطينية إلى دولة مستقلة.
وما يريده نتنياهو مع تضاؤل طموحاته السياسية، هو أن يتجنب المساءلة القضائية، ولهذا كان وراء محاولة الائتلاف تقويض القضاء، بالهيمنة على المحكمة العليا، وهذا الهدف يجعل نتنياهو ليس أكثر من رجل يدير دفة الحكم، بدلا من قيادتها، وهذا يعني بكل بساطة أن يترك المتخاصمين يتعاركون، دون أن ينحاز إلى طرف، إلا حين يرى رجوح كفته، أو في أحسن الأحوال أن يحاول التوصل مع المتخاصمين لحل وسط، وهذا ما فعله حين أقال غالانت، وهذا ما فعله حين أعلن عن تجميد مشروع خطة الحكومة الخاصة بالقضاء، أي أنه سيترك الخصام يأخذ مساره ليبقى بين “القوة اليهودية” و”الليكود”، بدلا من أن ينحصر بينه وبين بن غفير، كذلك هو ترك اليمين يواجه تظاهرات المعارضة بتظاهرات مضادة، وهكذا بات من مصلحة نتنياهو الشخصية التي تبقيه في الحكم، أن تبقى إسرائيل في حالة عراك داخلي، دون حسم، ذلك أن الحسم في أي مسألة من شأنه أن يعيد ترتيب الأمور، بما في ذلك الإطاحة به، بعد أن تجرأت عليه شخصيا استطلاعات الرأي، التي ــ بالمناسبة ــ حتى حين كانت تعطي أرقاما متقاربة لليمين والمعارضة، كانت تمنحه كرئيس حكومة أفضلية على خصومه، لابيد، غانتس، وبينيت.
وعدم الحسم، يعني أن نتنياهو لن يتعجل للإيفاء بوعده لبن غفير بإعادة طرح خطة القضاء أمام الكنيست بعد انقضاء عطلة الأعياد، لأن من شأن ذلك، بسبب وجود أغلبية برلمانية صريحة للائتلاف أن تتحول الخطة إلى قرار واجب التنفيذ، وهذا سيشعل الشارع الإسرائيلي صخبا، كذلك سيدفع بالتوتر داخل الجيش ومؤسسات الدولة إلى أبعد مدى، كما أنه سيصب ماء باردة جدا على علاقات إسرائيل بأميركا والغرب بشكل عام، بالمقابل لن يسحب الخطة، على الأقل في المدى المنظور، كما يطالب متظاهرو المعارضة، وهكذا سيظل الوضع في إسرائيل ينتظر حدثا دراماتيكيا، أو أن التغييرات ستأخذ وقتها على نار هادئة، بما في ذلك ظهور بديل عن نتنياهو لقيادة “الليكود”، أو حتى تآكل “الليكود” نفسه، بما يعيد تكرار مصير حزب العمل.
لكن ولأن العالم الذي يحيط بإسرائيل لا ينتظر ما يحدث فيها، فإن الشرق الأوسط، الذي يعتبر أحد مناطق العالم، التي طالما شهدت التضاد بين الأقطاب الكونية، يشهد تحولات عميقة، على قاعدة أن السياسة مصالح، ولا مصالح ثابتة، وبالتالي لا مواقف سياسية ثابتة، بما في ذلك الاصطفافات الإقليمية، وإذا كانت معاهدات السلام بين إسرائيل وكل من مصر والأردن ومعهما السلطة الفلسطينية، قد وصلت إلى أقصى درجة من البرود، فإن الطبعة الثانية من اتفاقيات السلام، أي السلام الإبراهيمي، ستتعرض بدورها إلى المصير نفسه، وفي المدى المنظور، لاحظنا تراجع الطموح الإسرائيلي، بتحويل أبراهام إلى مدخل لتحالف أمني إسرائيلي ــ خليجي، بالتزامن مع توقف الطموح الإسرائيلي بضم السمكة الكبيرة، أي السعودية لتلك الاتفاقيات المشؤومة.
مختصر القول، إن نتنياهو يرتكز على ضعفه حاليا، وليس من مصلحته الشخصية أن يكابر، وأن يظهر عنترية تطيح به خارج الحكومة، لكن ضعفه هذا إنما يتحول إلى ضعف لإسرائيل، فهل ستتمكن الدولة العبرية من تجاوز قدرة الرجل على السيطرة، وتطيح به، شخصيا على الأقل، أم أنها ستظل رهينة مشروع ولادة دكتاتور جديد ينضم إلى متحف الاستبداد في الشرق الأوسط؟!.