أقلام

فـلـسـطـيـن شـعـب ودولـة

الكاتب: تحسين يقين

لم تذكر مشاهد عودة الغزيين الى بيوتهم، بمشاهد نزوحهم فقط، بل بمشاهد تهجير شعبنا الفلسطيني الجماعية، باختلاف انتصار الأمل، ما يعني عودة أخرى للاجئين الفلسطينيين وأبنائهم وأحفادهم. وهذا ما يجعل الاحتلال لا ينام من شدة كوابيسه.
ترى كيف ألهمت عودة المواطنين الى بيوتهم من يشاهدونهم؟
صور ومشاهد سيطول تأثيرها، ولعلها ستخلد في سجل الوثائق، بتفاصيلها الإنسانية، التي أكدت على أن هؤلاء العائدين ليسوا أفراداً، ولا جماعات بل هم شعب، في كل شخص منهم قصص، وفي كل قلب أحلام، وذكريات.
يثير الشفقة اقترحه الرئيس ترامب، رئيس العالم، كما يتوهم شعوره بالتفوق والقوة، حين أسقط من فكره وشعوره معنى الإنسانية، حين راح «يشيّئ» البشر؛ فالفلسطينيون في غزة هم مجرد كائنات يتم نقلهم من مكان لآخر، لا يهمهم إلا الطعام والشراب.
والشيء بالشيء يذكر، حين وصف جورج شولتز في الثمانينات، شعبنا بالمخلوقات. (creatures)، لذلك فإن هذا الشعور موجود في ذاكرة الرجل الأبيض، في وعيه ولا وعيه.
وجورج شولتز هو وزير خارجية للولايات المتحدة، في ولاية الرئيس رونالد ريغان، حاول تفريق الشعب الفلسطيني، بعزل شعبنا عن منظمة التحرير، لتعود الولايات المتحدة فيما بعد للتواصل مع منظمة التحرير.
المهم في كل ما يجري هنا وحولنا، هو شعبنا الموحد، لا المجزأ، ولا نظن أن في فلسطين من يقبل بأن يكون داعياً لفرقة.
حين تُركت قضية اللاجئين لتكون ضمن قضايا الحل النهائي، ظن الاحتلال أنه سيلغي حق العودة مع تقادم القضية (الكبار يموتون والصغار ينسون)، لينقلب السحر على الساحر، فكل لاجئ سيعود يوماً.
ربما ظن الاحتلال حين هجر معظم شعب شمال غزة، بأن الغزيين سيبحثون عن وطن جديد. لكن هل هناك من شعب في التاريخ اختار ترك وطنه؟
وهكذا، بوجود شعبنا موحداً مع نفسه أولاً، فإن هذا الوجود هو الوجود الأكثر إصراراً على البقاء، وهو الوجود الأكثر وجوداً، بل هو الوجود المقاوم، ولعل فلاسفة العالم يحللون للاحتلال وحليفته معنى الوجود.
كان ما كان من قرن، وكان ما كان من 77 عاماً، و57 عاماً. وكان ما يكون في كل مرحلة عاشها الشعب الفلسطيني، فماذا كانت النتيجة؟ ظل الشعب الفلسطيني باقياً.
من يتحدث عن فصل غزة، أو دولة غزة، لم يقرأ التاريخ كما ينبغي، فقد كانت الوطنية الفلسطينية شامخة في قطاع غزة ما بين نكبة فلسطين 1948 و1967، وما بعده، بل كانت نموذجاً بالتأكيد على خصوصية فلسطين؛ فهل يتوهم هؤلاء بأن الأبناء والأحفاد سيرضخون لأوهامهم؟
غريب أمر الاحتلال والاستعمار، لم يكتفوا بما أجرموا بالشعب الفلسطيني، بل يمضون في غيّهم وضلالهم المعهود، للمزيد من الجرائم: القتل والتدمير ثم التهجير!
سيجد الفلسطينيون دوماً طريقهم، سيحيون من جديد، وهم طائر العنقاء فعلاً. لم يكد الفلسطيني العائد الى الشمال يصل بيته حتى راح يرممه، ويهيئه للحياة، في الوقت الذي أيقن أصحاب البيوت المدمرة بأن بيوتهم ستعود ثانية، وسيؤسسون ذاكرة إضافية لما يكون دون نسيان ما كان.
لم يتعلم الغزاة بعد؛ فهل فكروا مثلاً بما فعل اللاجئون الفلسطينيون داخل فلسطين وخارجها حين زاد تمسكهم بوطنهم؟ هل فكر الغزاة بفلسطينيي عام 1948 حينما بعد 77 عاماً من الأسرلة، زادت فلسطينيتهم جيلاً بعد جيل؟
ليس هذا مستحيلاً ولا معجزات، فقد انتهت المعجزات مع انتهاء رسائل السماء، بل إن ذلك هو الطبيعي جدا؛ فكل شعب يألف مكانه، وله فيه مستقر حتى حواسه ترفض التخلي عما شعرته، فكيف يسمح رئيس أكبر دولة في العالم لنفسه بالتحدث بهذه السهولة، فهل فعلاً سيختار الفلسطيني وطناً آخر؟ من الطبيعي أن يسافر الغزيون لدعم بقاء الأهل في غزة، لا لشيء آخر. لقد ازداد الوطن حضوراً في حياتنا.
كنا حينما نطمئن على أهلنا في غزة وشقيقاتها في القطاع، يرد علينا الأهل هناك بعبارة واحدة «بس توقف الحرب.. بدناش من حدا إشي».
يعرف الغزيون الفلسطينيون طريقهم في البناء، فمن أراد أن يبني معهم مختاراً، فله شرف المشاركة في البناء. وليس من الصعب التواصل مع أهل البلاد، ولا مجال لتأخير الإغاثة والإعمار إن صدقت النوايا.
من أية لحظة يستطيع الداعمون التواصل مع فلسطين، فلها بوابة معروفة، وقد تم ذلك على مدار سنوات الاختلاف، والعالم والمانحون والاحتلال يعرفون من كان يدير فعلا وزاراتنا ومؤسساتنا هناك؛ فلماذا الجدل!
حقوق شعبنا غير قابلة للتصرف، وهي حقوق فردية وجمعية حصرية بنا أفراداً وشعباً؛ لذلك من العقلانية أن نتجه باتجاهها لا الابتعاد عنها.
لقد آن الأوان للعقل والقلب في النظرة لفلسطين، الشعب والدولة، بل أليس غريباً بأن تكون فلسطين الدولة أكثر حضوراً؟
الشعب الفلسطيني صاحب تجارب ثقافية وحضارية ناضجة، وهو مفتوح فعلا لأية حلول ذكية تقصد الحل الدائم وإنهاء الصراع، فليلتقط من يسعى للحلول هذا النضج الفلسطيني البعيد عن العنصرية.
إن البدء بإغاثة قطاع غزة الآن، قد بدأ يمنح الأمل، واستمرار ذلك سيزيده، ولعل الدول الشقيقة والصديقة وغيرها تعرف المطلوب منها دون الإلحاح بالطلب. فلا إدارة منفصلة، ولا حلول جزئية، ولا دويلة على المدى المتوسط، ولا تهجير، بل هو شعب بدولته القائمة فعلاً، والتي هي تحت الاحتلال. إن جدولة انسحاب الاحتلال من الأرض المحتلة قابل للتطبيق. إن تغيير منطلق الاحتلال الى السلام والتحرر سيكون المفتاح الساحر لحل الصراع.
إننا أمام استحقاق طبيعي: وحدة الشعب الفلسطيني، الوحدة القانونية للضفة الغربية وقطاع غزة. أما الأمر الاستراتيجي الضامن لدولة فلسطين، فإنه يتمثل بوحدة الموقف العربي. ولعل شجاعة الأردن ومصر الشقيقتين في الرد الفوري على هرطقات ترامب تعني الكثير.
لم يمت العرب ولن يموتوا، وسيظل جوهر مبادرة السلام العربية منطلقاً لأية تحرك جاد وفعلي في إنهاء الصراع، لذلك إن أريد لهذا الصراع أن ينتهي فالطريق معروفة، أما من أراد أن يدير الصراع لا حله، فلا نظنه قادراً على ذلك.
«خض لبن بطلع زبدة»، لكن لا زبدة ناتجة من خض الماء، فقط سنرى الفقاعات، التي سرعان ما تركد، فيظل الماء ماء.
إجراءات على الأرض تمهد لقيام دولة فلسطين، هي إجراءات حكيمة وأخلاقية بل وعملية نحتاجها جميعا، فهل من ضمير يصحو ويفكر بنقاء!

زر الذهاب إلى الأعلى