أقلام

سيرة مرعي عبد الرحمن و الحلم الضائع

كتب ماجد كيالي :

تشكّل سيرة بعض الشخصيات جزءا من سيرة شعب، أو حركات سياسية، وهو ما ينطبق على سيرة الوطني الفلسطيني مرعي عبد الرحمن (أبو فارس)، الذي كان واحدا من أبرز الكوادر القيادية، والمؤثّرة، في حركة “فتح”، في ذروة نهوضها، وحيويتها، وصخبها، في مرحلتها اللبنانية، دون أن يكون عضوا في لجنتها المركزية أو في مجلسها الثوري؛ ودون أن يحتاج إلى ذلك أصلاً، كعديد من رفاق دربه.
وفي الواقع فإن أبو فارس صنع تاريخه، أو وضع بصمته، في تلك الحركة، منذ انخراطه فيها أواخر الستينيات في عمان، بالاستناد إلى شخصيته المتميزة، بالجرأة في طرح المواقف، وبرؤيته السياسية المخالفة للمألوف، وبحضوره المتحدي واللافت للانتباه، كما بروح السخرية عنده من السائد، ويشمل ذلك بالطبع القيادات المتصدرة للمشهد.
الفكرة الأساسية التي شكّلت هاجساً لأبو فارس كانت تتعلّق باجتهاده في تحويل “فتح”، وهي حركة تحرر وطني، لا حزب ولا جبهة، كونها تضم أفرادا من خلفيات أيديولوجية وسياسية متعددة، لكن دون أي ناظم، إلى جبهة وطنية حقيقية، وعلى أساس بلورة تيار ديمقراطي يساري داخلها، ولو اتخذ هذا التيار شكل حزب في الجبهة، تمثلا للتجربة الفيتنامية.
وطبعا فإن تلك الفكرة كانت محور همّ مشترك مع خيرة من الكوادر القيادية في “فتح”، الذين اجتمعوا (مطلع السبعينيات)، على بناء مثل هذا التيار الديمقراطي ـ اليساري ـ المعارض، مثل: حنا ميخائيل (أبو عمر)، وعبد الفتاح القلقيلي (أبو نائل)، وماجد أبو شرار (أبو سلام)، وأحمد أبو شاويش (أبو معن)، وإلياس شوفاني، وراجي مصلح، وآخرين كثر.
ومعلوم أن هذا التيار الديمقراطي ـ اليساري ـ المعارض شكل قطاعا عريضا في “فتح”، وقتها، وامتد تأثيره إلى بعض الفصائل، بحيث بات أكبر، وربما أكثر نشاطية، من الفصائل “اليسارية” الفلسطينية، وهو كان يمتد من لبنان إلى سورية والأردن والأرض المحتلة، وإلى أقاليم روسيا، والولايات المتحدة، ودول أوروبا الشرقية، وألمانيا، والجزائر والكويت…الخ.
وبشكل أكثر تحديدا فقد ناضل هذا التيار ضد التسيّب والهلامية في “فتح”، وفي علاقاتها الداخلية، ودعا إلى تنظيم الحركة، بحيث تصبح جبهة، التنظيم فيها هو القائد، بدل أن تكون تنظيما للقائد، أو للقيادة، في واقع التنظيم فيها هو مجرد جهاز من أجهزتها!
من الناحية السياسية، ناهض هذا التيار الانحراف الحاصل بالتحول من برنامج التحرير إلى البرنامج المرحلي (1974)، الذي أتى بسبب تماثل منظمة التحرير مع برنامج الأنظمة العربية، ومن دون معطيات مناسبة، والذي فرض من القيادة، من دون نقاش في إطارات الحركة، بدليل أن المؤتمر الرابع لـ”فتح” (دمشق 1980) لم يقر ذلك البرنامج؛ وهو ما فعلته القيادة الفلسطينية بعقدها اتفاق أوسلو، من وراء حركة “فتح” ومن وراء منظمة التحرير.
أيضا، ركز هذا التيار على مكافحة أوجه الفساد، وعلاقات الفساد، والمحسوبية في حركة “فتح”، وفي كل تلك المسائل كان لأبو فارس، ورفاقه مواقف مشهودة وملموسة.
وبصرف النظر عن مآلاته، فقد أعطى هذا التيار “فتح” بعضا من روحها، وتميزها، كحركة وطنية تعددية ومتنوعة، وكأكثر حركة تشبه شعبها، وبانحسار هذا التيار، فقدت “فتح” كثيرا من طابعها، وحيويتها، ومشروعيتها، كحركة وطنية تعددية، وهي مآلات تنسحب على الحركة الوطنية الفلسطينية بتحولها إلى سلطة، تحت الاحتلال، منذ عقد اتفاق أوسلو (1993).
في فترة الانشقاق (1983)، انحاز أبو فارس إلى وحدة “فتح”، وإلى الوطنية الفلسطينية، عزز من ذلك موقفه المعارض للنظام السوري، والواعي لمحاولته الإمساك بالقرار الوطني الفلسطيني، لاستخدامه كورقة في مساوماته السياسية، ولتعزيز مكانته الإقليمية.
في تلك الفترة، “مرض” الوضع الفلسطيني، في مرحلة سياسية صعبة ومعقدة، ومرض أبو فارس أيضا، بحيث بات خارج دائرة التأثير، والتفاعل، وهي فترة عصيبة، امتدت لسنوات، سهرت فيها المناضلة والوطنية الفلسطينية المعروفة شادية الحلو، زوجته، على رعايته، وتأمين مقومات الراحة له، بصبر ووفاء ومحبة، إلى حين وفاته.
عرفت أبو فارس، مطلع السبعينيات، في دورة كوادر عقدت في معسكر مصياف (قرب مدينة حماة)، مع أبو عمر ود راجي، ومنذ ذلك الوقت ارتبط تاريخي في “فتح”، بذلك التيار (إلى أواسط الثمانينيات حيث غادرتها مبكرا)، وخلال تلك الفترة تعددت لقاءاتي به، في لبنان ثم تونس ودمشق ورام الله.
هكذا في سيرة مرعي عبد الرحمن بعض من سيرة شعبها وحركته، فهو من قرية الشجرة، ولجأت عائلته إلى مخيم العائدين في مدينة حمص في سورية، وعمره أربعة أعوام، تلقى تعليمه الجامعي في روسيا، وبعده التحق بحركة “فتح” في الأردن، ثم بعد الخروج من لبنان، عاد وأكمل دراسة الدكتوراة، ليعود بعدها إلى تونس، ثم إلى رام الله.
المواساة لزوجته الصديقة شادية الحلو، ولابنه فراس وابنته سماء، وإخوته وأخواته ومعارفه، ولرفاق التجربة المشتركة.
إبان أحداث أيلول (1970) في الأردن اعتقل أبو فارس في سجن الجفر، في الصحراء الأردنية، لعدة أشهر، وحينها أهداه رفيقه الشاعر أحمد دحبور قصيدة جاء فيها:
“ونازل الجفر ما ضاعت ملامحه‏
في الرمل، والجفر لم يجعله صحراء‏
وفاض من جوعه ماء وخضراء‏
الصمت يجرحه‏
ويكسر الصمت بالتنهيد لو شاء‏ لكنه صمدا‏…
شهادة:‏
كان قرب الموت أعياء‏
وكان جلاده يرجوه أن يَعِدا‏
بكلمة، آهة، أو أن يبوح.. سدى‏
كأنه واحة تزهى ملامحه‏ في الرمل،‏
والجفر لم يجعله صحراء‏…”
هكذا، رحل عن دنيانا هذه الأيام رجل لا يمكن نسيانه.

زر الذهاب إلى الأعلى