أقلام

خفض إنتاج البترول: ميلاد نظام متعدد الأقطاب

بقلم: أشرف العجرمي

شكل قرار تحالف «أوبك بلس» بخفض سقف إنتاج البترول بمقدار مليون ومائة ألف برميل يومياً صدمة للولايات المتحدة والغرب عموماً، فهذا ثاني تخفيض كبير منذ شهر تشرين الأول من العام الماضي حيث قرر التحالف تخفيض الإنتاج بمليوني برميل يومياً. والإعلان عن التخفيض الجديد الذي سيسري في شهر أيار القادم ساهم في رفع أسعار النفط بين 6- 8% وتجاوز سعر البرميل حاجز 85 دولاراً. وقد اتخذ القرار كإجراء احترازي بعد دراسة حالة السوق ولخلق توازن بين العرض والطلب. وهو يشكل حاجة للدول المنتجة للبترول في ظل ارتفاع الأسعار في غالبية السلع على مستوى العالم.

تصرف مجموعة «أوبك بلس» التي تلعب فيها السعودية وروسيا دوراً مركزياً يأتي بمعزل عن مواقف وإرادة الولايات المتحدة والدول الغربية التي عبرت عن استيائها من خفض الإنتاج واعتبرته غير مبرر. وعملياً بدأت السعودية بانتهاج خط مستقل عن الولايات المتحدة ويبدو متناقضاً مع مصالحها في بعض الأحيان. وهذا لا يتعلق فقط بالتنسيق مع روسيا لخفض انتاج البترول، بل في سلسلة من المواقف التي تستفز واشنطن حتى لو لم تعلن الأخيرة عن موقف غاضب من هذه المواقف.

فعلى سبيل المثال ذهبت السعودية نحو تطبيع علاقاتها مع إيران وسيتم تبادل السفراء بين البلدين وزيارات متبادلة لزعيمي الدولتين الجارتين. كما تتجه السعودية لدعوة سورية للمشاركة في القمة العربية المزمع عقدها في الرياض في التاسع عشر من أيار المقبل. وسيتوجه وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان إلى دمشق قريباً لتوجيه دعوة للرئيس بشار الأسد لحضور القمة. طبعاً وقبل ذلك زار الرئيس الأسد دولة الإمارات العربية المتحدة وهذا ما كان ليتم لولا مباركة السعودية.
يبدو أن القيادة السعودية وخاصة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بات يدرك أن هناك نظاماً عالمياً جديداً بدأ بالتشكل خاصة بعد الحرب الأوكرانية التي تمثل في حقيقة الأمر صراعاً بين روسيا وحلف الناتو والغرب عموماً، وهي لا تتعلق بأوكرانيا بقدر ما تتعلق بميلاد نظام عالمي متعدد الأقطاب لا تتحكم فيه الولايات المتحدة لوحدها بتحالف غربي داعم لها. وبالرغم من أن الغرب يخوض حرباً تؤثر على توازن القوى العالمي ومصالح الكتل الكبرى ويستهدف استنزاف روسيا لإضعافها بصورة ملموسة أو حتى دفعها للانهيار إلا أن النتائج تأتي عكس ذلك، فتضرر روسيا يقابله أضرار أفدح وأكبر بكثير على الاقتصادات الغربية وعلى قدرة النظام الغربي المهيمن على الصمود.
و
من أهم النتائج للحرب التي لا تزال مستمرة هذا الارتفاع الكبير في سعر الفائدة والتضخم الذي يضرب اقتصاد الكثير من الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة وأوروبا. ولعل انهيار بنوك في الولايات المتحدة بسبب الخسائر الفادحة في سعر سندات الخزينة الأميركية المتأثر بالتضخم، وكذلك انخفاض الأسهم الأوروبية، هي بعض المؤشرات على الضرر العظيم الذي يصيب الاقتصاد الغربي الذي بات يعاني من اضرابات كبيرة واحتجاجات وتشويشات تمس بعجلة الانتاج في بعض الدول. هذا عدا عن الانقسام بين الدول الأوروبية حول دعم أوكرانيا بالسلاح والمال على حساب الجيوش الغربية واحتياجاتها والقدرة الإنتاجية لمصانعها الحربية.

والأخطر من كل ذلك من وجهة النظر الأميركية وبعض حلفائها هو التحالف الروسي- الصيني الجديد الذي نشأ على ما يبدو بسبب الحرب في أوكرانيا وموقف واشنطن العدائي تجاه كل من الصين وروسيا. والزيارة التي قام بها الرئيس الصيني لروسيا والاتفاقيات الكثيرة التي وقعت بين الطرفين في العديد من المجالات وخاصة الاقتصادية والتقنية والعسكرية تفتح العيون على ميلاد عالم جديد مختلف، وهذا ما أكد عليه الزعيمان الصيني والروسي خلال القمة التي جمعتهما والتصريحات التي أعقبت اللقاءات.
ويبدو أن تحالف «بريكس» الذي يضم كلا من البرازيل وجنوب أفريقيا والهند وروسيا والصين سيحتل مكاناً مهماً في النظام العالمي الجديد، خاصة بسبب البدء باعتماد العملات المحلية كوسيلة لتداول السلع بين هذه البلدان وتقليص التعامل بالدولار الذي كان وسيلة التداول شبه الوحيدة في العالم إلى جانب اليورو. ويشكل تقليص دور الدولار في التجارة العالمية وربما نهاية مفهوم البترودولار ضربة هائلة للاقتصاد الأميركي الذي يعتمد على الدولار وسيلة للتبادل التجاري الدولي بدون أي رصيد من المعادن الثمينة أو العملات الأخرى. ويزداد الطلب على الانضمام لمجموعة «بريكس» حيث ترغب كل من مصر والسعودية وإيران في الانضمام لها.

ويعيش العالم اليوم إعادة تشكيل للتحالفات بناء على المصالح التي لا تحددها الولايات المتحدة لوحدها، وتستفيد إيران من هذه التحولات حيث بدأت باستعادة وتحسين علاقاتها مع الدول العربية. والدور الذي لعبته الصين في الجمع بين السعودية وإيران يشكل علامة مفصلية في هذه التطورات. حتى تركيا بدأت بتعديل مواقفها من الدول العربية وأخيرة من سورية. والاجتماع الرباعي الذي يعقد في موسكو بمشاركة تركيا وإيران وسورية وروسيا بهدف تطبيع العلاقات السورية- التركية والحفاظ على وحدة وسيادة الدولة السورية هو أيضاً من التحركات المهمة التي تعكس التغيرات الكونية. حتى الولايات المتحدة التي شعرت نفسها تخسر قدرتها على قيادة العالم والتحكم فيه باتت تبحث الآن عن اتفاق نووي جديد جزئي مع إيران. وإسرائيل المنشغلة في مشاكلها الداخلية هي الأخرى باتت من المتضررين من نتائج الحرب الأوكرانية ومن ميلاد نظام عالمي جديد يدمج أعدائها الإيرانيين في المنطقة ويزيد عزلتها، ويفتح عيون العالم على طبيعتها العدوانية والعنصرية والدموية. فهل نستفيد نحن من ذلك؟

زر الذهاب إلى الأعلى