ترامب .. القصة أكبر من فكرة تهجير
الكاتب: عاطف أبو سيف
لا يجب الاستخفاف بمطالب الرئيس الأميركي بتهجير سكان قطاع غزة، ويجب ألا نقلل من أهمية سعي الإدارة الجديدة لتحقيق ذلك. صحيح أن ترامب قد يبدو شخصاً غير متزن في الكثير من المواقف خاصة تلك التي أعلن عنها في بداية ولايته الثانية، لكنه أيضاً شخص عنيد ويؤمن بالإنجاز، وهذا هو السر. ترامب يواصل بعناد محاولاته لتنفيذ أفكاره بصرف النظر عن المصاعب. إن مجرد فكرة عودته للبيت الأبيض بدت معجزة بالنسبة للكثيرين ويمكن أنها لو طرحت قبل أربع سنين لكانت ستبدو كوصفة من الخيال. عموماً، أفكار ترامب التي تبدو عشوائية بخصوص الكثير من القضايا العالمية قد تفشل لكن حين يتعلق الأمر بمواقفه الغريبة من القضية الفلسطينية فسيتم السعي لتحقيقها.
مثلاً، لا يبدو أنه سيجد أي دعم من اجل أن تصبح كندا الولاية الواحدة والخمسين، وربما تتم مواجهته من داخل الحزب الجمهوري ومن داخل الكونغرس، كذلك فكرة تنازل بنما عن قناة بنما وما قد ينتج من توترات أخرى مع المكسيك كما مع كندا بخصوص الضرائب، والكثير من القضايا التي ستخلق لواشنطن أزمات في حديقة بيتها الخلفية، كل هذا قد يجد ترامب صيغا مختلفة للخروج من مأزق الإصرار عليها. ببساطة، لأن هذه المقترحات تمس الأمن الأميركي وتنفيذها سيعني المساس بمصالح أميركا. نفس الشيء فيما يتعلق بإنهاء حلف «الناتو» الذي انتقل الحديث من تفكيكه إلى مطالبة دول أوروبا بزيادة نفقاتها عليه. سيحاول ترامب بأي وسيلة دفع الدول الأوروبية لزيادة مدفوعاتها ولكن لن تصل إلى 5% من ناتجها القومي كما طالب. والكثير من القضايا الشائكة مثل العلاقة مع الصين. ما أقوله، إن كل مواقف ترامب الأخرى باستثناء موقفه الغرائبي لترحيل الفلسطينيين مرتبطة بالمصالح الأميركية وأي تصعيد من أجل تحقيقها قد يمس المصالح الأميركية والأمن الأميركي. وعليه ففيما قد لم يجد دعماً فيما يتعلق بالكثير من مواقفه، فإن دعوته لترحيل الفلسطينيين وإفراغ قطاع غزة من سكانه من اجل أن تتمدد إسرائيل جغرافياً وديمغرافياً ستلقى دعماً من حزبه كما من بعض الحزب الديمقراطي، ناهيك عن الدفع المستمر الذي سيقوم به اللوبي الصهيوني من أجل أن تظل هذه الفكرة قائمة حتى لو تعثر تحقيقها، الآن.
السفارة في القدس باتت أمراً واقعاً فحتى الرئيس الديمقراطي الذي تلا ترامب، أقصد بايدن، لم يغير شيئاً من الأمر. الأفكار لا تموت والمقترحات لا تختفي حتى لو لم تعد على الطاولة. فقط الأحداث والفعل المبادر وحتى المضاد الذي يمكن أن يفشلها وعليه اقترح أن نأخذ موقف ترامب بخصوص التهجير على محمل الجد. فقط المناعة الوطنية يمكن لها أن تفشل هذا، لكن يجب عدم الاستخفاف بالماء الكثير الذي يجري تحت أرجلنا.
بالنسبة لترامب فإن ثلاثة عوامل تحدد هذا المطلب. يتمثل الأول في أن غزة ستظل تشكل مصدراً للحروب مع إسرائيل فحتى الحروب مع الآخرين في السنوات الثلاثين الماضية تمت بسبب غزة سواء مع لبنان أو مع الحوثيين أو التصعيد الجزئي مع إيران أو استهداف إسرائيل من بعض المجموعات في العراق. ثانياً، ثمة أزمة سياسية لا يمكن حلها في ظل وجود غزة التي يجب أن تختفي ويتم «خنق» تطلعات الفلسطينيين السياسية. في حال اختفت غزة فإن فكرة الدولة ستنتهي. ولهذا أسباب كثيرة. ثالثاً، كما عبر عن ذلك ترامب بوضوح فإن إسرائيل دولة صغيرة وهي بحاجة للمزيد من المساحة. ومثل هذه الملاحظة قد لا تتوقف في المستقبل عند غزة، بمعنى توسع إسرائيل المستقبلي قد لا تكون نهايته ابتلاع غزة.
ماذا عن العالم؟
حتى نفهم طبيعة ما يجري بخصوص مستقبل القضية الوطنية بعد الحرب فإن العالم متعاطف معنا لكن أيضاً لديه أولوياته.
ترامب أدخل نفسه طرفاً في الصراع وطرفاً مقرراً في مصيره. وفيما لا يمكن فهم الكثير من مواقفه، لكنّ ثمة موقفا واحدا يجب فهمه: الفلسطينيون ليسوا في وارد أولوياته. ترامب آخر من يمكن أن يوصف بالمحب للسلام والدافع له رغم أنه يرغب أن يتم تصويره كذلك. كما يجب ملاحظة أن نتيجة الحرب الأهم هي طريقة التعامل مع ملف غزة كملف منفصل عن الصراع وهذا بدوره يكرس حالة فهم العالم الذي يقوده ترامب ويمكن فهمه وفق المحددات التالية:
لا يوجد شيء اسمه قضية فلسطينية؛ هناك قضايا فلسطينية. ولا يوجد شيء اسمه صراع فلسطيني إسرائيلي (تذكروا كيف تم شطب مفهوم الصراع العربي الإسرائيلي في الآونة الأخيرة) هناك صراعات جزئية لإسرائيل مع الفلسطينيين هنا وهناك. مرة أخرى لا يوجد مصير فلسطيني توجد مصائر فلسطينية. وفي حال نجحت فكرة تهجير سكان غزة، وأنا أشك في ذلك، فإن هذه ستكون بداية المرحلة الجديدة من تحقيق الحلم الصهيوني وبناء إسرائيل وتوسعها الذي لن يقف على غزة. لذلك فإن منع تهجير غزة يجب أن يكون قضية مصيرية بالنسبة لدول الجوار. والموقف يجب أن يكون ضد تهجيرهم حتى الطوعي إلى بلدان بعيدة. الفكرة أن تظل غزة قائمة.
العالم سيجد نفسه منسجماً مع بعض أفكار ترامب خاصة فكرة التركيز على غزة. حيث لا يمكن حل كل شيء مرة واحدة. يجب التعامل بالقطعة مع القضايا الفلسطينية. والأولوية لغزة لأنها مزعجة لإسرائيل ولأن مشاهد الدمار والإبادة كانت قاسية. مثلاً، الاتفاق بخصوص غزة لو انتبهنا جيداً هو «مصغر» عن اتفاق أوسلو من اكثر من جهة: المراحل، القضايا المؤجلة، تصنيف المناطق وغير ذلك، مع بعض الفروقات الجوهرية تتعلق بطبيعة القضايا المؤجلة. ومع ذلك فهو اتفاق مرحلي قد يتبعه اتفاق آخر. يظل التلويح بجزرة الرخاء الاقتصادي مقابل القسوة العسكرية قائماً، بمعنى أن المطلوب والمدفوع باتجاهه ليس حلاً سياسياً بل يشبه الحل السياسي في جوانب معينة. بعبارة أخرى هو بدلة اقتصادية مع ربطة عنق سياسية.
هل ستكون ثمة دولة في غزة أو تنتقل غزة لتصبح مركز ثقل النظام السياسي الفلسطيني الذي يتم الدفع باتجاهه؟ من يستبعد ذلك عليه أن يتأكد أنه يفكر بعقل سياسي وليس بمشاعر «غير جياشة» وحنين قد يصبح لا لزوم له بعد قليل. وهذا يتم على حساب المشروع الوطني برمته في الضفة الغربية.