بعد قرار ألمانيا مراقبة حدودها.. ما هو مصير اتفاقية شنغن؟
برلين – المواطن
لطالما شهد جسر أوروبا الممتد على نهر الراين حركة تنقل نشطة جدا على مدار اليوم، حيث يربط بين مدينة ستراسبورغ الواقعة في الألزاس الفرنسية وبلدة كيهل الألمانية، وهي منطقة تتميز بتاريخ وثقافة مشتركة، فضلا عن روابط اقتصادية عديدة مع وجود عيادة “رينا” التي يعمل بها أطباء من الجانبين.
لكن هذه الصلة بين البلدين الأوروبيين طرأت عليها بعض التعديلات، بعد فرض برلين عمليات تفتيش واسعة على جميع المعابر البرية على حدودها التسعة، لإجراء عمليات فحص جوازات السفر، ضمن حملة صارمة ضد الهجرة ولمعالجة الجريمة، وفقا للمسؤولين.
ودخلت هذه الضوابط الحدودية حيز التنفيذ منذ الاثنين الماضي ولمدة 6 أشهر قابلة للتجديد، مع كل من فرنسا وهولندا والدانمارك وبلجيكا ولوكسمبورغ، فيما تم تطبيق الإجراء نفسها مع سويسرا وجمهورية التشيك وبولندا الخريف الماضي، بينما تخضع الحدود النمساوية للمراقبة منذ عام 2015.
ملف شائك
وكانت وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيزر قد قالت، الأسبوع الماضي، إن الهدف هو الحد من الهجرة والحماية من المخاطر الحادة التي يفرضها ما سمته “الإرهاب الإسلامي والجرائم الخطيرة”، بينما أشارت الوزارة في بيان صحفي إلى أن “برلين ستتمتع بسلطة رفض الأشخاص على جميع الحدود البرية”.
وتعليقا على ذلك، يرى أستاذ العلوم السياسية بجامعة ستانفورد في برلين أولريك بروكنر، أن صعود حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي وحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي أدى إلى هذه “الحالة الهستيرية”، مضيفا أن الديمقراطيين الاجتماعيين والخضر والليبراليين وعدوا بالعمل على أجندة تجعل ألمانيا دولة “أكثر انفتاحا وتأييدا للهجرة، وتلتزم بمعاييرها الإنسانية والتزاماتها الدولية”، لكن وزارة الداخلية أعلنت أننا في “حالة طوارئ”.
وأشار بروكنر، في حديث للجزيرة نت، إلى أن موقف الحكومة الحالية مختلف عن سابقاتها في عهد أنجيلا ميركل، التي أرسلت إشارة مفادها أن ألمانيا بلد غني ومستقر، واستقبل بالفعل عددا كبيرا من المهاجرين عام 2015، “ولكن الوضع اليوم يعني أننا لا نريد الأجانب، وهو ما سيدمر نموذج المجتمع المفتوح وأرض الأفكار كما يقدمها التسويق الذاتي لألمانيا”، متسائلا “من سيرغب في السفر إلى دولة عنصرية تغلق حدودها؟”.
ويعتقد الأكاديمي الألماني أن بلاده لا تستطيع البقاء على هذا الوزن السياسي ومستوى الدخل والناتج المحلي الإجمالي إذا لم يكن لديها تدفق متساوٍ من العمالة المؤهلة، “لذا من الضروري أن تكون دولة هجرة، وتوفر السكن والمزايا الاجتماعية وكل ما يتعلق بدمج الأشخاص، بغض النظر عما إذا كان الشخص حائزا على جائزة نوبل أو نجم كرة قدم أو طالب لجوء”.
وبينما تعتبر ألمانيا وفرنسا من أهم الدول المدافعة والداعمة لاتفاقية شنغن وحرية التنقل بين أعضاء الاتحاد الأوروبي، وضعت الخطوة الألمانية وحدة الكتلة الأوروبية على المحك وجذبت انتقادات من جيرانها على الحدود.
لكن عضو مجلس إدارة مركز دراسات السياسة الأوروبية والمستشار الاقتصادي السابق للاتحاد الأوروبي دانييل غروس، يرى أن ألمانيا تمتلك الحق الكامل في اتخاذ هذا النوع من القرارات “عندما تتيقن من وجود خطر وشيك على أمنها الداخلي”.
وأوضح غروس في حديث للجزيرة نت، أن الخطأ الذي ارتكبته برلين يكمن في عدم إبلاغ المفوضية الأوروبية مسبقا لإعطائها الضوء الأخضر لتطبيق المراقبة الحدودية، وعدم تحذير جيرانها الأوروبيين قبل إدخال الإجراءات حيز التنفيذ؛ في حالة وجود تهديد خطير للسياسة العامة أو الأمن الداخلي، على أن يتم تطبيق ذلك كـ”ملاذ أخير”.
وعما إذا كانت اتفاقية “شنغن” في خطر، أكد عضو مجلس إدارة مركز دراسات السياسة الأوروبية أن الاتفاقية “وصلت إلى نهايتها” لأن بنودها كانت مواتية قبل 25 عاما عندما كانت أعداد المهاجرين ضئيلة، لكن الضوابط الحدودية والانتقائية أصبحت ضرورية الآن، بسبب التدفق الهائل للأجانب، على حد قوله.
من جانبه، يعتبر أولريك بروكنر، أن هذا القرار يشكل خطرا على فكرة أوروبا الموحدة، “لأن الحكومة التي كانت ملتزمة بالقانون الأوروبي والأفكار الليبرالية نراها اليوم تضحي بالحرية الفردية باسم ضمان الأمن، لكنها مضطرة أيضا إلى إضفاء الشرعية على هذه الإجراءات من خلال جعلها مؤقتة فقط”.
وأضاف المتحدث أن ذلك لا ينبئ بنهاية “شنغن” لأن “برلين أثبتت أن البلاد في حالة طوارئ، ونشّطت بند الأمان لمدة 6 أشهر، وهو أمر مشمول في الاتفاق الأوروبي”.
صعود اليمين المتطرف
تزامنت هذه الحزمة الأمنية مع الهجوم في منطقة زولينغن الغربية، حيث قام رجل سوري بطعن 3 أشخاص حتى الموت في 23 أغسطس/آب الماضي، وتزعم السلطات أنه مرتبط بـ”تنظيم الدولة” وكان من المقرر ترحيله في السابق.
ووفقا لتحليل الأستاذ الألماني بروكنر، فإن الأحزاب اليمينية تريد ركوب موجة الخوف الحالية من خلال التركيز على الهجرة، مشيرا في سياق حديثه إلى المثال الإيطالي، حيث تستغل الحكومة الإيطالية الحالية المعادية للهجرة مخاوف الناس من غرق بلدهم الذي يبلغ عدد سكانه 60 مليون نسمة بالمهاجرين، حيث يصل إليه 60 ألف مهاجر كل عام، ووصف خطابات رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني بـ”الشعبوية الخالصة”.
وعن احتمالية وقوع توترات بين ألمانيا وباقي الدول الأوروبية، أوضح بروكنر أن برلين وجدت نفسها ملتزمة بمفردها باستقبال اللاجئين، لكنها تستفيد من اتفاقية دبلن التي تضعها في وضع مريح نسبيا. مضيفا أن الانتخابات المقبلة في براندنبورغ ـوهي المحرك الرئيسي لهذا النشاط المفرط ـ ستشهد انتصارا آخر للأحزاب الشعبوية، التي ستقنع الناس بأن “القارب ممتلئ، وأننا أمام خطر أمني أو أي هراء آخر”.
ويحدد قانون دبلن الثالث البلد الأوروبي المسؤول عن معالجة طلب اللجوء الخاص بكل شخص، ففي ألمانيا يقوم المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين بفحص ملفات طالبي اللجوء قبل دعوتهم إلى جلسة الاستماع، لمعرفة إن كانت ألمانيا هي المسؤولة عن معالجة ملف لجوء الشخص المعني أم لا.
أما دانييل غروس، فيتوقع أن يتم تعزيز دور الدول التي تقرر بنفسها سياستها الداخلية، حتى لو تعارض ذلك مع “الجمهورية الأوروبية”، مستنكرا بشدة “إلقاء اللوم على ألمانيا فقط، لأن النمسا وفرنسا فعلتا الأمر ذاته من قبل، ويعلم الجميع أنه لا يوجد خيار آخر” حسب تعبيره.
وقد أعربت عدد من الدول الأوروبية عن استيائها من الضوابط الألمانية الجديدة، حيث وصف رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك ذلك بـ”الأمر غير المقبول”، مضيفا أن وارسو ستطلب محادثات عاجلة مع جميع البلدان المتضررة، كما حذرت اليونان والنمسا من عدم قبولهما استقبال المهاجرين الذين رفضتهم ألمانيا.