انتقاد المقاومة .. حق مشروع أم تثبيط؟
الكاتب: عبد الغني سلامة
يرتبط النقد في أذهان العامة بالجَرح والانتقاص وتصيّد الأخطاء وكيل الاتهامات.. وهذا غير صحيح؛ فالنقد ممارسة مسؤولة من شأنها كشف الأخطاء وتحديد السلبيات وتقييم النتائج للاستفادة منها مستقبلاً، من حيث تلافي الأخطاء، أو تصويبها، والبناء على الإيجابيات، وهكذا. والنقد مهم جداً، ولا يمكن لأي نظام أو ثورة أو حركة أن تتقدم دون النقد، والقوى الاستبدادية والسلطات الأوتوقراطية وحدها من يرفض النقد ويخافه، لأنه يكشفها ويعريها.
وفي زمن الحروب يتجنب الكثيرون ممارسة النقد، بذريعة أنه قد يؤثر سلباً على معنويات المقاومة، وقد يضعضع الجبهة الداخلية، وأنَّ التركيز يجب أن ينصبّ على توحيد الصفوف وشحذ الهمم.. وهذا صحيح نسبياً، لكن النقد يجب أن يُمارس في كل وقت، لأن تأجيله يعني مفاقمة المشكلة، وكلما تأخر النقد يفقد جدواه، وتصبح الحلول أكثر صعوبة وأكثر كلفة.
ولو نظرنا إلى الساحة الإسرائيلية، وكيف تفاعلت مع الحرب، وأثناءها، سنجد استطلاعات للرأي، ونقاشات حادة وعلنية، واختلافات عميقة في تقييم الموقف، واتهامات متبادلة، ودعوات لمحاسبة المسؤولين، وتظاهرات معارضة في الشارع، ولجان تحقيق مستعجلة، وأخرى ستتشكل بعد الحرب، وقادة سياسيين وجنرالات بعضهم يعترف بالتقصير، وآخرون يعلنون تحملهم مسؤولية الفشل، وآخرون يحاولون التنصل من كل شيء، وهناك مراكز دراسات أمنية وإستراتيجية تستخلص العبر، وتقدم المقترحات، وهناك من ينتقد الجيش ويسخر منه، ومن يؤيده بشدة، بل إن هناك كتّاباً إسرائيليين ينتقدون عنصرية إسرائيل وهمجيتها وغباء قادتها، ويطالبون بإنهاء الاحتلال.. كل هذا يجري أثناء الحرب، ولا أحد يخوّن الآخر، ولا أحد يقول ليس أوانه، وأنَّ ذلك يُضعف الجبهة الداخلية.. مع إنهم جميعاً متفقون على عداء الفلسطينيين.
وهذه ليست صورة تجميلية لدولة الاحتلال العنصرية ، بل محاولة لمعرفة أسباب قوتها.. وهي فرصة لنتعلم من أعدائنا، وهذا ليس خطأً. بدلاً من المناكفات، أو الحديث همساً، وفي الصالونات المغلقة، وبلغة مزدوجة ومواربة واحدة أمام الإعلام، وأخرى نقيضة لها أمام ذواتنا وفي نقاشاتنا الضيقة.
ومن وسائل منع النقد، المقولة الرائجة «لا يفتي قاعد لمجاهد»، ومن يروجون لهذه المقولة لا يتقبلون أي كلمة نقد بحق المقاومة، بل ويصنفون من ينقدها بأنه مع الطابور الخامس، ومن المرجفين، ويعتبرون أنّ التضامن مع غزّة ومع المقاومة لا يكون مقبولاً إلاّ إذا تضمن موافقة كاملة على كلّ ما تفعله المقاومة.. وأرى أنها دعوة لتكميم الأفواه وإسكات أي وجهة نظر مختلفة، انطلاقاً من فكرة تقديس المقاومة، ووضعها في مرتبة أعلى من النقد، وهذه الفكرة لا تأتي إلا من عقلية استبدادية، أو ممن يعتقدون أنهم يمتلكون الحقيقة الكاملة، ويرفضون أن يخدشها أحد.
ومن وسائل إسكات النقد أيضاً شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، وهنا يجب أن تكون كل الأصوات والمواقف متجندة للمعركة، ومؤيدة لها بالكامل، وعلى الجميع السير مع الحشود، دون اعتراض، وحتى دون تفكير!
ولشرعنة إسكات أي صوت معارض أو ناقد أو حتى ناصح، تتبع الأنظمة والحركات والجماعات المسلحة إستراتيجية استغلال وتوظيف اسم العدو وصفته العدوانية وما يمثله من خطر وتهديد على الشعب والوطن، وذلك لتبرير خياراتها في خوض الحرب وتسييرها، فتقوم أولاً بتصنيف كل من ينتقدها ويخالفها بأنه مع العدو الغاصب، وثانياً تلجأ إلى أسلوب تقديس الذات، بعد أن يتفق الجميع على تشخيص العدو بأنه شرير وخطر ومتوحش، سيصبح تلقائياً كل من يتصدى لهذا العدو يمثل الخير والسمو، ويغدو قديساً، يتوجب إتباعه وطاعته، وهنا تتماهى شخصية القائد والحزب الحاكم مع الوطن والشعب والقضية، وطالما أنه يقاوم العدو سيكون من الصعب على عامة الناس إدراك الفروقات بين ما يمثله القائد واجتهاداته ومصالحه الشخصية والحزب ومكاسبه الفئوية وبين مصلحة الوطن والقضية العليا التي يناضل من أجلها الشعب.
ويكون قد ترسّخت في الوعي الجمعي مغالطة منطقية مفادها أن كلّ من يقاوم هذا العدو هو بالضرورة ليس وطنياً وحسب، بل وكل خياراته وقراراته صحيحة! رغم أن التاريخ يزودنا بأمثلة لا حصر لها لجهات مقاومة ارتكبت أخطاء قاتلة، وأمثلة أخرى كان العدوّ الخارجي الشرير يُعادي فئة من الشعب شريرة مثله.
وثالثاً، سيبرر القائد أو الحزب أو الجهة المقاومة فشلها وسوء إدارتها للمعركة بالأعمال العدوانية التي يمارسها العدو، ويصبح سبب الهزيمة المؤامرة الكونية، أو قوة العدو وجبروته، أو خذلان الحلفاء، وليس سوء الإدارة والتخطيط والمراهنات الخاطئة.
وعند الحديث عن النصر والهزيمة تصبح نجاة القائد، ونجاة النظام السياسي، أو نجاة القوات المقاومة هي الانتصار بحد ذاته.
صحيح أن النقد إذا كان بغرض تصفية حسابات حزبية والنيل من خصوم سياسيين