الساحات العامة في غزة تتحوّل إلى مخيّمات نزوح

منذ أكثر من عام ونصف عام، راحت مفترقات الطرق في قطاع غزة والساحات العامة تتحوّل إلى نقاط تجمّع لفلسطينيين هجّرتهم آلة الحرب الإسرائيلية من مناطقهم وبيوتهم، وقد وصل الأمر إلى حدّ نصب مخيّمات عشوائية فيها. وبعد سريان وقف إطلاق النار في غزة في 19 يناير/ كانون الثاني الماضي، أخلى كثيرون مساحات عامة كانوا قد لجأوا إليها منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، لكن مع استئناف إسرائيل حربها على القطاع المحاصر في 18 مارس/ آذار الماضي، عادت قواتها إلى توجيه أوامر الإخلاء إلى سكان أحياء بأكملها قبل تدميرها، أو ضمّها إلى ما يُطلق الاحتلال عليه تسمية “مناطق أمنية عازلة”.
وكانت مئات آلاف العائلات قد رأت نفسها، منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وتصاعد الأوامر العسكرية بالإخلاء، مجبرةً على مغادرة منازلها والتوجّه إلى أيّ بقعة يمكنهم الاحتماء فيها، فلجأت إلى المساحات المفتوحة المتاحة، بغضّ النظر عن جاهزيتها أو صلاحيتها للسكن المؤقّت، وهكذا تحوّلت الساحات العامة في قلب مدينة غزة الواقعة شمالي القطاع المحاصر، مثل فلسطين والجندي المجهول والسرايا والكتيبة، إلى مراكز حيوية للتجمّعات المدنية، وأُقيمت فيها مخيّمات، إذ تحوّلت هذه المساحات بفعل النزوح القسري المتواصل إلى مخيّمات تؤوي آلاف العائلات المشرّدة.
ولأنّ أعداد الفلسطينيين الذين هجّرتهم آلة الحرب الإسرائيلي وتَمضي في تهجيرهم حتى هذه اللحظة، كبيرة، راحت عمليات نصب المخيّمات العشوائية تتمتّد إلى مفترقات الطرق، وكذلك الشوارع الرئيسية في مدينة غزة، مثل شارعَي الجلاء والوحدة. ولجأ النازحون أيضاً إلى المساجد والمقار الرسمية، في مقدّمتها المجلس التشريعي، إلى جانب نصبهم الخيام في المراكز الثقافية مثل مركز رشاد الشوا الثقافي أو المكتبة العامة، وكذلك مركز إسعاد الطفولة ومعالم أخرى بارزة ومدمَّرة.
وميدان فلسطين في مدينة غزة، الذي لطالما مثّل نقطة حيوية للحركة التجارية والحركة المرورية، نُصبت فيه فجأة خيام بلاستيكية تَأوي عائلات فقدت كلّ شيء، ويتكرّر المشهد في ساحة الجندي المجهول في المدينة، إذ تحوّلت الساحة المخصّصة للفعاليات العامة وللترفيه إلى مقرّ سكن مؤقّت يفتقر إلى أدنى مقوّمات البقاء على قيد الحياة، وفي ساحة السرايا التي كانت تُخصَّص للاحتجاجات والمناسبات الوطنية في مدينة غزة، نُصبت أغطية على العصي، فيما يركض الأطفال حفاة الأقدام على الإسفلت الحار أو البارد، كما تحوّلت ساحة الكتيبة، المخصّصة للأنشطة الشبابية وغيرها، إلى موقع لأكبر مخيّمات النزوح في المدينة، إذ يعيش آلاف اللاجئين في ظروف غير إنسانية.
وهذه المساحات ليست مخصّصة بالتأكيد لتكون أماكن سكن، ولو مؤقّتة، إذ تفتقر إلى البنى التحتية اللازمة، في حين لا تتوفّر على مياه نظيفة كافية ولا خدمات صرف صحي فعّالة، ولا مراحيض ولا منشآت تحمي من الشمس الحارقة أو البرد أو المطر، ولأنّ الخيم والشوادر المتوفّرة لا تكفي لإيواء الجميع، فكثيرة هي العائلات التي تفترش الأرض في العراء.
محمد سعد، نازح فلسطيني من حيّ الشجاعية في مدينة غزة، يبلغ من العمر 45 عاماً، عمد بعد السابع من أكتوبر 2023 إلى نصب خيمة في منطقته السكنية عقب دمير قوات الاحتلال منزله والمنازل المجاورة. وأخيراً، اضطرّ إلى نقل خيمته إلى ساحة الجندي المجهول وسط حيّ الرمال بمدينة غزة، بعد تهديد منطقته بالاخلاء، وتوصَف ظروف سعد العاطل من العمل اليوم بأنّها صعبة، لا سيّما أنّ النزوح الأخير ضاعف معاناته ومعاناة أسرته، علماً أنّه لم يتمكّن إلّا من حمل بعض الملابس لعدم توفّر وسيلة نقل. ويخبر سعد، الذي كان يعمل في مجال البناء، “العربي الجديد” أنّ عائلته المكوّنة من سبعة أفراد تعيش في ساحة عامة كانت مخصّصة للتنزّه، بلا مياه ولا طعام كافيَين، ولا حتّى دورات مياه صالحة للاستخدام، ويؤكد أنّ “كلّ شيء هنا مؤقّت وهشّ، لكنّنا نفضّل هذا على أن نُدفَن تحت الركام”.
من جهته، يشكو عطا دويمة، البالغ من العمر 38 عاماً والعاطل بدوره من العمل، من غياب الخصوصية في خيمة نُصبت في شارع الجلاء وسط مدينة غزة، مشيراً إلى أنّه ينام فعلياً في الشارع مع عائلته المكوّنة من أربعة أفراد. ويقول دويمة، الذي كان يعمل نادلاً، لـ”العربي الجديد” إنّ “العدوان الإسرائيلي أثّر على كلّ النواحي المعيشية، وقلب حياة الناس رأساً على عقب، لدرجة أنّهم صاروا يعيشون مكرَهين في الساحات العامة التي كانت مساحة للتنفّس قبل أن تتحوّل ملاذاً اضطرارياً لعشرات آلاف الأسر البائسة بعد أن دُمّرت بيوتهم أو هُدّدوا بالإخلاء”، ويقرّ دويمة بأنّه يعيش “واقعاً مأساوياً برفقة أعداد كبيرة من العائلات التي أقامت خيامها في المناطق العامة، التي تفتقر إلى أدنى مقوّمات الحياة الطبيعية والبنى التحتية”، مشيراً إلى “الناس يفترشون الأرض ويلتحفون السماء”.
سهاد ناجي، البالغة من العمر 41 عاماً، نازحة فلسطينية أخرى في قطاع غزة تعاني كما يعاني كلّ هؤلاء الفلسطينيين الذين هجّرتهم آلة الحرب الإسرائيلية منذ السابع من أكتوبر 2023، وهي تعيش اليوم في خيمة نصبها زوجها في ساحة السرايا بعد أن فرض عليهم الاحتلال إخلاء منطقتهم بمدينة بيت لاهيا شمالي قطاع غزة، وذلك وسط أوضاع إنسانية سيّئة جداً، وتقول ناجي لـ”العربي الجديد”: “لم أتخيّل في حياتي أن تتحوّل تلك الساحة التي لطالما مررت بجوارها عند شراء ملابس العيد لأطفالي أو زيارة أقاربي إلى مقرّ اضطراري للسكن الذي يفتقر إلى كلّ مقومات الحياة”. وعلى الرغم من كل محاولات الصمود في وجه الواقع الصعب، لا تتحمل ناجي، وهي التي كانت تعمل في مجال التدريس، رؤية أطفالها ينامون على قماش رقيق في خيمة “هشّة” لا تحميهم لا من البرد القارس ولا من الحرّ الشديد، وتؤكد أنّها لا تملك أيّ خيار آخر.
المصدر: علاء الحلو – العربي الجديد