الذكاء الاصطناعي على مشارف حرب الملكية الفكرية
حقوق النشر أوقفت موقع "نابستر" الذي حاول تخطيها وتحرير المشاركة في المحتوى الرقمي بين الجمهور
طرحت شركة “أوبن أي آي” روبوت الدردشة “تشات جي بي تي” القادر على تقديم إجابات عن أسئلة دقيقة وتنفيذ أعمال تخصصية أو إبداعية، فانفتح باب النقاش مجدداً حول مستقبل الذكاء الاصطناعي، والفارق بين الذكاء الاصطناعي والذكاء البشري. وبالغ كثيرون في الاحتفاء بذلك الذكاء على اعتبار أنه يحاكي الإبداع البشري، فيما اتخذ بعض الخبراء والمفكرين، من بينهم المفكر الأميركي نعوم تشومسكي، موقفاً مشككاً فيه.
ووفق تشومسكي: يتعذر على هذا الذكاء التفريق بين الممكن والمستحيل، وتوقع مسار الأمور. في السياق نفسه، ثمة نقاش آخر لم يختمر بعد ويدور حول اتهام روبوتات الدردشة باستغلال الملكية الفكرية. ففي مقال نشرته “إيكونوميست” قبل أيام، أوضحت أن غايلز مارتن، نجل جورج مارتن منتج أغاني فرقة “البيتلز” الشهيرة، حاول خلال السنة الماضية صنع نسخة “ريميكس” من أحد الألبومات الذائعة لتلك الفرقة الرباعية، يحمل عنوان “ريفولفر” Revolver وقد صدر في عام 1966.
واستخدم غايلز مارتن أحد أدوات الذكاء الاصطناعي في التعرف على صوت كل آلة موسيقية عزف عليها كل عضو من الفنانين الأربعة الذين تكونت فرقة “بيتلز” منهم (مثلاً غيتار جون لينون). وزود غايلز مارتن الذكاء الاصطناعي بموسيقى كانت مسجلة على شريط موسيقي كي يفصل بينها قبل أن يعيد هندستها. وجاءت النتيجة مذهلة، وفق الـ”إيكونوميست” التي لم يختلف رأيها عن ذلك الذي أبداه جمهور عريض من عشاق الفرقة الموسيقية. وفي هذا العام، لدى مراجعة كلمات كتبها “تشات جي بي تي” محاكياً أسلوب المغني وكاتب الأغاني الأسترالي نيك كاف، جاء رد الأخير بأن “هذه أغنية مقرفة”، واصفاً إياهاً بالهراء، و”الاستهزاء بما يجب أن يكون عليه الإنسان”.
وتتضمن كلمات تلك الأغنية التي وصلت إلى كاف من أحد المعجبين، “أنا الخاطئ، أنا القديس/ أنا الظلام، أنا النور/ أنا الصياد، أنا الفريسة/ أنا الشيطان، أنا المنقذ”. وفق كاف، فإن “كتابة أغنية جيدة عمل من أعمال القتل الذاتي الذي يدمر كل ما سعى المرء إلى إنتاجه في الماضي. ربما يبدو كأنني آخذ كل هذا على محمل شخصي، لكنني كاتب أغانٍ منشغل في هذا الوقت بالذات، بعملية كتابة الأغاني. إنه عمل يحتاج إلى دم وشجاعة، هنا على مكتبي. إنه يتطلب إنسانيتي”.
يكشف كاف عن أنه لا يشعر بأي حماسة تجاه هذه التكنولوجيا، فيما قد يجدها غايلز مارتن مفيدة. في سياق متصل، يستند مايكل ناش، كبير المسؤولين الرقميين في “مجموعة يونيفرسال الموسيقية”، أكبر شركة منتجة للأعمال الموسيقية في العالم، إلى الفنانين بوصفهما دليلاً على مزيج الحماسة والخوف الذي يرافق انتشار التطبيقات المدعومة بالذكاء الاصطناعي التوليدي، سواء تلك التي تولد النصوص كـ”تشات جي بي تي” أو الصور كتطبيق “ستيبل ديفيوجن” (للصور). تسهم هذه التكنولوجيات في العملية الإبداعية، لكنها تستطيع أيضاً تدميرها أو الاستيلاء عليها.
بالنسبة إلى الموسيقى المسجلة عموماً، تذكر موجة روبوتات الدردشة بحدث بدا مزلزلاً في أيامه، يتمثل في الصعود والسقوط السريعين لموقع “نابستر” Napster الذي قدم خدمة مشاركة المحتوى، خصوصاً الموسيقى، بين الجمهور. وفي مطلع الألفية الثالثة، بدا “نابستر” كأنه صار منصة لمشاركة الأغاني، ومعظمها كان مقرصناً أصلاً. وفي نهاية المطاف، أطاحت قوانين حقوق النشر “نابستر”. وقد صنعت هوليوود فيلماً عن تلك التجربة حمل اسم ذلك الموقع الذي يعرف عن مؤسسه شون باركر، أنه أسهم في تأسيس “فيسبوك”، لكنه تركه بسرعة بسبب الميول التجارية لدى مارك زوكربيرغ.
المسألة الرئيسة هنا ليست أغنية كتبها شكل من الذكاء الاصطناعي بأسلوب المؤلف كاف، أو نسخة مزيفة من سوناتات شكسبير. تتجسد المسألة في تلك المحيطات من البيانات المحمية بحقوق الطبع والنشر التي اختلستها روبوتات الدردشة في غمرة عملية تدريبها على إنشاء محتوى شبيه بالمحتوى الذي يصنعه البشر. تأتي تلك المعلومات من كل حدب وصوب. وتشمل التدوينات المكثفة على الوسائط الاجتماعية، وعمليات البحث على الإنترنت، والمكتبات الرقمية، والتلفزيون، والراديو، وبنوك الإحصاء، وما إلى ذلك.
ووفق “إيكونوميست”، يزعم غالباً أن نماذج الذكاء الاصطناعي تنهب قواعد البيانات من دون إذن. ويشكو مسؤولون عن مصادر تلك المواد من استخدام أعمالهم من دون موافقتهم أو إرجاع الفضل إليهم، أو حصولهم على أي تعويض. باختصار، ليس مستبعداً أن يحذو بعض منصات الذكاء الاصطناعي حذو “نابستر”، حتى مع الفارق في المحتوى (لا يقتصر الأمر على المحتويات الرقمية المبسطة والموسيقى المقرصنة التي ملأت جنبات موقع “نابستر”)، إذا استمرت في تجاهل حقوق النشر تماماً. وبالفعل، لقد بدأت تتصاعد أعداد الدعاوى القضائية في هذا الشأن.
في الواقع، إنه حقل ألغام قانوني تمتد آثاره أبعد من الصناعات الإبداعية كي تصل إلى أي عمل يؤدي فيه التعلم الآلي دوراً ما، من قبيل السيارات الذاتية القيادة والتشخيص الطبي وروبوتات المصانع وإدارة مخاطر التأمين. في ذلك الصدد، يعتمد الاتحاد الأوروبي تشريعاً خاصاً في شأن حقوق النشر يتضمن مسألة التنقيب عن البيانات. وقد جرت صياغة ذلك التشريع قبل الطفرة الأخيرة لروبوتات الدردشة. ووفق بعض الخبراء، ليس لدى أميركا ملفاً قانونياً خاصاً بالذكاء الاصطناعي التوليدي. بدلاً من ذلك، لدى أميركا نظريات متنافسة حول ما إذا كان التنقيب عن البيانات من دون تراخيص يندرج تحت عباءة مبدأ “الاستخدام المنصف”. وتذكيراً، لقد حاولت “نابستر” أيضاً استخدام مبدأ “الاستخدام المنصف” كوسيلة في الدفاع عن نفسها داخل أميركا، لكنها أخفقت. ولا يعني ذلك أن الأمور ستؤول إلى النتيجة نفسها هذه المرة.
استكمالاً، لقد صار معلوماً أن التعلم الآلي للذكاء الاصطناعي يستند على شبكات عصبية اصطناعية وتلزمه مجموعات شاملة من البيانات كي يتدرب عليها. في الغالب، تضم تلك المجموعات من البيانات صوراً أو مقاطع فيديو أو أصواتاً أو نصوصاً. وتملك كل هذه المواد حقوقاً مسجلة ومحفوظة، بالتالي يمثل قانون حق المؤلف عقبة محتملة كبيرة أمام تدريب الذكاء الاصطناعي.
في سياق متصل، تتحدث “إيكونوميست” عن رأي مارك ليملي وبريان كيسي في هذه المسألة، إذ كتبا في مجلة “تكساس لو ريفيو” أن استخدام الأعمال المحمية بحقوق الطبع والنشر يعد عادلاً حينما يخدم غرضاً اجتماعياً وازناً، ولا يؤثر في السوق الأساسية لأصحاب الحقوق. وبالنسبة إلى منتقدي مبدأ “الاستخدام المنصف”، يشير هؤلاء إلى أن أشكال الذكاء الاصطناعي تستفيد من مجمل قواعد البيانات التي تتدرب عليها لأغراض تجارية. ويزعم المنتقدون أيضاً أن الشركات التي تقف وراء التعلم الآلي تستغل الاستخدام المنصف “للاستفادة المجانية” من عمل الأفراد، بالتالي يؤكد ذلك الرهط من النقاد أن الاتجاه الحالي الذي تسلكه روبوتات الذكاء الاصطناعي التوليدي يهدد سبل عيش المبدعين، بل إن خطرها قد يشمل المجتمع ككل إذا عزز الذكاء الاصطناعي المراقبة الجماعية وانتشار المعلومات المضللة.
في سياق متصل، يقارن المؤلفان تلك الحجج بحقيقة أنه كلما زاد الوصول روبوتات الذكاء الاصطناعي إلى مجموعات أضخم من البيانات كي تتدرب عليها، يؤول الأمر إلى اكتساب اتسم الذكاء الاصطناعي مستويات أفضل، بل إنه في ظل غياب هذا الوصول ربما ينتفي وجود الذكاء الاصطناعي على الإطلاق. بعبارة أخرى، ربما تندثر صناعة روبوتات الذكاء الاصطناعي التوليدي في مهدها. وفي ما يصفونه بأنه أحد أهم الأسئلة القانونية في القرن، يسأل الكاتبان “هل سيسمح قانون حقوق الملكية للروبوتات بالتعلم؟”.
في ملمح متصل، تضرب “إيكونوميست” مثلاً على تلك المحاججات بدعوى قضائية تقدمت بها وكالة التصوير الفوتوغرافي”غيتي إيماجز” Getty Images، تتهم فيها شركة الذكاء الاصطناعي “ستابيليتي أي آي” Stability ai التي تملك نظام الذكاء الاصطناعي “ستيبل ديفيوجين”Stable Diffusion، بانتهاك حقوق ملكيتها ملايين الصور من مجموعتها بغرض بناء نموذج من الذكاء الاصطناعي لتوليد الصور يتنافس مع “غيتي” نفسها! وفي حال عدم تسوية القضية خارج المحكمة، ستشكل سابقة من نوعها في مجال “الاستخدام المنصف”. ومن المرتقب صدور حكم مهم من المحكمة العليا الأميركية في قضية في شأن مدى حق الفنان آندي وارهول في استخدام لقطات لمغني البوب برنس في أعماله من دون أن يدفع حقوق المؤلف للمصورة التي التقطتها. تتضمن الدعوى 16 نسخة من وجه برنس مطبوعة بتقنية الشاشة الحريرية نفذها وارهول في عام 1984 مستنداً إلى صورة للمغني الشهير التقطها لين غولد سميث قبل ثلاث سنوات من ذلك العام. استطراداً، تقدمت المصورة المعروفة التي اشتهرت بالتقاطها صوراً لعدد من نجوم موسيقى الروك، بدعوى طالبت فيها “مؤسسة آندي وارهول” بإعطائها تعويضاً عن استخدم صورها بصفتها صاحبة حق المؤلف.
في سياق موازٍ، لا يشكل الاغتراف من البيانات المحمية بحقوق الطبع والنشر، المشكلة القانونية الوحيدة التي تعترض الذكاءالاصطناعي التوليدي، إذ لا تطبق هيئات قضائية عدة حقوق المؤلف سوى على العمل الذي تحقق بواسطة البشر، بالتالي لقد بتنا إزاء منطقة رمادية أخرى تتمثل في المدى الذي يمكن أن تطالب فيه الروبوتات بحماية الملكية الفكرية للمحتوى الذي تنتجه. فهل يجب أن تحميل الذكاء الاصطناعي التوليدي مسؤولية حماية المحتوى الذي يعرضه، على غرار ما حصل مع منصات التواصل الاجتماعي في مسألة حماية بيانات الجمهور؟
في المحصلة، لا ريب أن معركة الملكية الفكرية المتصلة بروبوتات الذكاء الاصطناعي التوليدي ستكون معركة كبرى. ويرى مايكل ناش، من مؤسسة “يونيفرسال” للموسيقى، إنه يتوجب على الصناعات الإبداعية أن تتخذ موقفاً ما على وجه السرعة، حرصاً منها على أن يستخدم إنتاج الفنانين في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي وفق ترخيص قانوني وبشكل أخلاقي. كذلك يحث ناش شركات الذكاء الاصطناعي على توثيق مصادرها والكشف عنها. بالطبع، لا يرغب المبدعون أن يظهروا في هيئة أعداء التقدم. ولا شك في أن كثيرين يستفيدون من الذكاء الاصطناعي في عملهم. ومن منصة “نابستر”، نستقي درساً مفاده أنه من الأفضل الانخراط في العمل مع التكنولوجيات الجديدة بدلاً من أن نتمنى زوالها.