أقلام

الأزمة المالية والتحول من دوائر الإنتاج إلى دوائر الإغاثة

مهند عبد الحميد

يعيش المجتمع الفلسطيني أزمة اقتصادية متفاقمة سنة بعد أخرى. ومن مظاهر الأزمة أن ربع القوى العاملة في حالة بطالة، وثلث المجتمع في حالة فقر، فضلاً عن تراجع مستوى الدخل الفردي وزيادة النفقات على الإيرادات. ففي موازنة السلطة للعام 2022 لوحظ بند غريب بعنوان إيرادات “متوقعة” قدرها 4.7 مليار دولار، ونفقات قدرها 5.8 مليار دولار وعجز قدره 558 مليون دولار. ولأن نسبة التوقع لم تكن في محلها فمن المنطقي ان يزيد العجز، وقد زاد فعلاً. اصبح الدين العام حتى نهاية عام 2022 حوالي 3.5 مليار دولار. ويتواصل عجز السلطة عن تسديد رواتب موظفيها فتدفع فقط 80% من الرواتب منذ أكثر من عامين، ويتراجع تأمينها للخدمات الأساسية. ويترافق مع العجز المالي الذي تعيشه السلطة عجز مالي كبير في موازنة الأونروا، ما

زاد بل فاقم الأعباء المعيشية للاجئين داخل وخارج فلسطين.
فقد جاء في تقرير المكتب التنفيذي للوكالة (أيار 2023) أن أقل من 20% هي مجموع التبرعات التي قدمتها الدول المانحة للوكالة خلال الثلث الأول من سنة 2023، فمن أصل 932 مليون دولار هي الميزانية البرامجية التي تحتاجها الأونروا لسنة 2023، وتشمل سداد 75 مليون دولار ديْن من سنة 2022، وصل للوكالة فقط 277.9 مليون دولار، ما يعني أن الباقي 646 مليون دولار يعد عجزا في الموازنة.

ويلاحظ أن العجز المالي المتواصل أثار اهتمام الفئات المجتمعية المتضررة والتي حاولت وتحاول الاحتجاج من اجل الحصول على استحقاقاتها وتحسين مستوى معيشتها، ولم يطرح العجز كقضية رأي عام داخل وخارج فلسطين، ذلك أن تأثيرها الفعلي اعمق وأشمل من معاناة كل قطاع متضرر منفردا. فقد أثرت الأزمة على مختلف مناحي الحياة، والأهم، لم يتم التوقف عند تأثيرها على عملية التحرر والخلاص من الاحتلال.

تعود الأزمة اساسا، الى السيطرة الإسرائيلية التامة على مختلف جوانب الاقتصاد الفلسطيني بدءاً بالموارد – الارض والمياه والمخزون الغذائي الموجود في المناطق المسماة (ج) فضلاً عن السيطرة على المعابر والتصدير والإيراد والتصنيع. وكبح كل محاولة لإنعاش الاقتصاد ونمو تشكيلة اقتصادية اجتماعية تشكل أساساً لتطور المجتمع.
وتعود الأزمة أيضاً الى امتناع رأس المال الفلسطيني عن توليد موارد كافية من داخل المجتمع والتجمعات للاعتماد على الذات، بدلاً من البحث عن الربح كهدف أسمى وبدلاً من دفع القطاعات الأوسع من المجتمع للبحث عن المساعدات الخارجية.

وتعود الأزمة الى تراجع الدعم الخارجي للشعب الفلسطيني ومؤسساته الرسمية بنسبة 80%. وتراجع الدعم العربي بنسبة 84% بحسب حسب موقع إيلاف السعودي. وبحسب عدنان أبو حسنة الناطق باسم الأونروا فإن الدعم العربي لم يتجاوز 3%. واكتفت السعودية بتقديم الدعم للأونروا بقيمة 27 مليون دولار في العام 2022. وتقدم قطر ما قيمته 30 مليون دولار شهرياً للعائلات الفقيرة في قطاع غزة ولشريحة من موظفي “حماس”. لم يعد دعم السلطة أولوية في غياب مشروع سياسي ينهي الاحتلال، وهنا لا يمكن فصل تراجع الدعم الدولي المالي عن التراجع في الموقف الدولي من الحل السياسي الذي ينهي الاحتلال. ولا يمكن فصل تراجع الدعم العربي المالي عن التراجع العربي السياسي الممثل بإبرام اتفاقات بين الإمارات والبحرين ودولة الاحتلال، وتعميم الاتفاقات لتشمل السودان والمغرب والدفاع عن الاتفاقات في مؤسسة الجامعة العربية وقطع أشواط على طريق إبرام دول أخرى لاتفاقات مماثلة.

بلغت وظائف الدعم المالي أوجها في الضغط على فلسطين من اجل التعايش مع الوضع الجديد في احسن الأحوال، وفي أسوأ الأحوال السكوت على عملية تدمير الحقوق الفلسطينية المشروعة التي تمارسها دولة الاحتلال. المؤسسات الفلسطينية الرسمية تتعرض للخنق والعقاب وكذلك المؤسسات غير الرسمية كما حدث ويحدث مع حركة مقاطعة إسرائيل الـ (بي دي اس). بكل المقاييس العقاب والحصار موقف جائر بحق الشعب الفلسطيني يمارسه النظام العالمي الذي من المفترض ان يعاقب دولة الاحتلال والابارتهايد كما فعل مع نظام جنوب افريقيا سابقاً، وكما فعل مع روسيا التي احتلت أراضي من أوكرانيا حين عاقب روسيا، ودعم الشعب الأوكراني بكل انواع الدعم، وبكل المقاييس كان الأجدر بالنظام العربي الرسمي معاقبة دولة الاحتلال وتقديم كل أشكال الدعم للشعب الفلسطيني. ما حدث هو المشاركة في حصار الشعب الفلسطيني مالياً، وتهميشه سياسياً، وكان “ظلم ذوي القربى أشد مضاضة”. ولا يغير من هذا الواقع المرير إطلاق بيانات دعم الشعب الفلسطيني وبيانات التنديد بالاحتلال والتصويت ضده، من قبل الجامعة العربية وفي قاعات القمة العربية في جدة.
وتعود الأزمة المالية الى اقتطاع ما يشبه قرصنة مالية إسرائيلية – ما يوازي مخصصات الاسرى والشهداء البالغة 15 مليون شهرياً من أموال الضرائب – المقاصة – وممارسة عقاب جماعي وحشي بحق أسر الشهداء والأسرى والمجتمع الفلسطيني، ومكافأة أقارب اسرائيليين قتلوا في صراع سببه الاحتلال والعنصرية والاستيطان المخالف للقانون الدولي. مقابل غض النظر عن

جرائم الحرب المرتكبة بحق أبرياء واطفال فلسطينيين على مدى عقود من الاحتلال.
وتعود الأزمة المالية لخلل بنيوي في توزيع الموارد وفي اعتماد سياسة مالية لا تخضع لرقابة او مساءلة، ففي حين يستحوذ الامن على 30% من الموازنة، بدون جدوى بل بجدوى سلبية، يخصص للتعليم 20% والصحة 14% والحماية الاجتماعية 20% ) هكذا نجد اهم القطاعات تتلقى نظرياً 54% وعملياً أقل، وإذا ما أضيف لها قطاع اللاجئين المهدد بعد شح الدعم المخصص للاونروا. سنجد ان هذه القطاعات الحيوية عنوان صمود المجتمع مهددة بالانهيار على المدى المتوسط، اذا ما استمرت الأزمة المالية بدون حل. واذا ما استمرت السياسة البيروقراطية المالية على حالها، بدون تخطيط يعيد تحديد الأولويات لصالح تطوير موارد وعمل منتج من داخل المجتمع. وبدون مشاركة الرأسمال الفلسطيني في تقاسم الأعباء ووضع حد للتهرب الضريبي وللاحتكارات التشجيعية بإعفاء ضريبي، على حساب السواد الأعظم من المواطنين الذين يتحملون العبء الأعظم.

إن استمرار هذه السياسة المالية يخرج الشعب الفلسطيني من دائرة الإنتاج الى دائرة الإعانة والإغاثة، هذا هو حال قطاع غزة راهناً، وحال المخيمات في الضفة. ولا شك في ان استمرار خروجنا من دوائر الإنتاج الى دوائر الإعانة والإغاثة يعني المس بقضية التحرر من نظام الأبارتهايد الاستعماري، ويعني تفكيك الروابط المجتمعية. هذا الواقع الاقتصادي المرير بحاجة الى تقييم وإعادة نظر وتحديد الأولويات. بحاجة الى مرجعية ورقابة من قبل أجسام منتخبة.

زر الذهاب إلى الأعلى