إستراتيجية مقاومة واحدة أم تعدد الإستراتيجيات؟
بقلم: د.هاني المصري
من القضايا التي طرحت نفسها بقوة على هامش معركة “ثأر الأحرار”، ولكن غالبًا في الكواليس، إستراتيجية المقاومة، وهل هناك إستراتيجية، وإذا وجدت هل توحدت فصائل المقاومة عليها؟
قبل الإجابة عن هذه الأسئلة، لا بد من تعريف الإستراتيجية؛ لأن هناك الكثير من الخلط ما بين الإستراتيجية وبين الأهداف التي توضع لتنفيذها، مثلًا بين المقاومة التي يتم التعامل معها بوصفها هدفًا، في حين إنها وسيلة لتحقيق هدف التحرير، أو للحفاظ على الذات، أو غير ذلك من أهداف.
إن الإستراتيجية هي الطريق الذي نسير فيه من المكان الذي نقف فيه إلى المكان الذي نصبو إليه، وهي تتضمن الخطط والأدوات والسياسات والتحالفات وأشكال العمل السياسي والكفاحي. لذا، لا يمكن أن تتحدد الإستراتيجية بدقة من دون تحديد الأهداف بوضوح، والمقصود ليس الأهداف البعيدة فقط، وإنما بما يشمل الأهداف القريبة والمتوسطة والبعيدة، فلا يكفي على أهميته أن يكون الهدف إبقاء جذوة الصراع مشتعلة.
ولا تحل هذه القضية حلًا صحيحًا بالاكتفاء بوضع هدف التحرير والعودة، أو القضاء على أو هزيمة المشروع الصهيوني، بل يجب تحديد طبيعة الدولة وخصائصها التي نحلم بإقامتها بعد التحرير؛ أي ما البديل الذي سنقدمه وسيقام بدلًا من إسرائيل؟ هل دولة فلسطين الديمقراطية التي يعيش فيها الجميع على قدم المساواة، بغض النظر عن الدين والجنس والقومية والمعتقد واللون، أم دولة ثنائية القومية، أم دينية، أم ماذا؟ وهذا من شأنه أن يؤدي إلى استقطاب أوسع للجماهير، ويجذب الأشقاء والأصدقاء، ويبث الفرقة بين الأعداء.
أهداف مباشرة ومتوسطة وبعيدة
ومن الأهمية وضع أهداف مباشرة ومتوسطة، مثل: رفع الحصار عن قطاع غزة، واستكمال تحريره، ووقف المخططات لتغيير مكانة الأقصى، وكذلك مخططات الضم وتوسيع الاستيطان في الضفة والداخل، وتحرير الأسرى، وملاحقة الاحتلال على جرائمه على كل المستويات والمحافل وفي المحاكم الوطنية والإقليمية والدولية، إضافة إلى دعم المقاطعة ضمن المقاومة الشاملة المرتبطة بأهداف محددة، مثل: إنهاء الاحتلال، وإسقاط الفصل العنصري وتحقيق المساواة في الداخل، وتمكين شعبنا في خارج الوطن من النضال من أجل حق العودة، من خلال الجمع بين الحفاظ على هويته ودوره الوطني وحقوقه المدنية، على طريق الحل النهائي الذي لا يتحقق إلا بهزيمة المشروع الاستعماري العدواني الاستيطاني الإحلالي العنصري.
هناك من يقول ليس من مسؤولية الشعب المحتل أن يقدم حلولًا، ويقفز عن أن تحديد الهدف النهائي وأهداف مباشرة ومتوسطة أمر يختلف عن تقديم الحلول، التي شهدناها في الممارسة الفلسطينية منذ عشرات السنين، بوصفها مراحل على طريق ترويض الضحية، ليقبل بالحلول التي يفرضها الجلاد.
إن تحديد الهدف النهائي المستند إلى وحدة القضية والأرض والشعب والرواية التاريخية، وإلى الحقوق الطبيعية والتاريخية والقانونية والسياسية، وإلى القيم التي في أساسها عدالة القضية الفلسطينية وتفوقها الأخلاقي، هو حجر الأساس الذي تبنى عليه مسيرة النضال بأسرها، بما في ذلك وحدة قوى الشعب التي من دونها لا يمكن تحقيق الانتصار.
ولكن، إذا وضع الهدف النهائي الذي سيستغرق في الحالة الفلسطينية تحقيقه فترة طويلة من دون تحديد أهداف مباشرة قريبة ومتوسطة، تستند إلى ميزان القوى والمعطيات المحلية والإقليمية والدولية والإسرائيلية، وتأخذ في الحسبان الظروف والمهمات الخاصة بكل تجمع؛ فسيهدر ما يمكن تحقيقه في كل مرحلة على مذبح الحل المنتظر بعيد الأمد، وهذا يجعل تحقيقه أصعب وأطول، ويفتح الطريق لمساومات جهوية وفئوية وفردية.
الالتزام بالهدف النهائي ضروري لتحقيق الأهداف الأخرى
في المقابل، إن تحديد الأهداف القريبة والبعيدة من دون الالتزام بالهدف النهائي يجعلها الحد الأقصى، وتكون دائمًا عرضة للمساومة، وتقود إلى سلسلة لا نهاية لها من التنازلات، كما حصل في المسيرة الفلسطينية، وتحديدًا منذ توقيع اتفاق أوسلو المشؤوم؛ أي ليس الخيار بين تحقيق شيء على حساب كل شيء، ولا كل شيء أو لا شيء، بل تحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه في كل مرحلة والتقدم على طريق تحقيق الهدف النهائي.
نقطة ثانية، هل يمكن وضع إستراتيجية لجزء من الشعب أو لتجمع من تجمعاته أو لقوة أو قوى من دون التعامل معها وكأنها تمثل الجميع، وبالتالي تعد بديلًا من الآخرين بمعزل عن الإستراتيجية الوطنية العامة، أم أن هذا – إن حصل وهو يحصل – يزيد من الشرذمة والانقسام؟
وهنا، يمكن تقديم نماذج وعلامات من دون التعامل معها وكأنها المطلوبة وتمثل الكل الوطني. ومن هنا أيضًا، يمكن فهم ظاهرة المقاومين الفرديين وعدم انضباطهم لإستراتيجية واحدة وقيادة واحدة، مع أن نشوء هذه الظاهرة ناجم في أحد أهم أسبابه من الفراغ الحادث بحكم عجز الفصائل عن بلورة وتجسيد مقاومة فاعلة ضمن إستراتيجية واحدة.
نقطة ثالثة، من الطرف أو الأطراف المسؤولة عن وضع الإستراتيجية، هل النخبة ومراكز الأبحاث أو الفصائل والأحزاب، أم المؤسسات الوطنية الجامعة والحاصلة على الشرعية النضالية والتوافقية، والأهم الشعبية، التي لا تتحقق إلا عبر صناديق الانتخابات؟
وفي الوضع الفلسطيني الذي يعاني من الانقسام وغياب المؤسسة أو المؤسسات الوطنية الجامعة، هل المطلوب انتظار إنجاز الوحدة، أم تقديم مبادرات وإسهامات ونماذج عن الإستراتيجية والإستراتيجيات المطلوبة بهدف المساعدة على تحقيق وحدة الشعب والقوى؛ أي إن الإستراتيجية الوطنية الفاعلة لا يمكن أن تحقق أهدافها من دون الوحدة، التي تقام على أسس وطنية وشراكة حقيقية وديمقراطية توافقية من مختلف، أو غالبية القوى والمؤسسات والأفراد، تناسب مرحلة التحرر الوطني التي يمر بها الشعب الفلسطيني.
الانقسام بعد أساسي وجوهره النزاع بين سلطتين
إذا انتقلنا إلى الواقع الملموس، نجد أن الانقسام لا يظهر بشكل رئيسي بسبب الخلاف بين البرامج، وخصوصًا بين خياري المفاوضات والمقاومة، بل هذا بعد أساسي للانقسام، لكن تراجعت حدته وأهميته لأسباب عدة، ومنها:
أولًا: الفشل الذريع لخيار المفاوضات، وعدم وجود عملية سياسية ولا مفاوضات، واستحالة التوصل إلى تسوية على الأقل، في المدى المنظور، وسعي اليمين إلى إقامة “إسرائيل الكبرى”.
ثانيًا: إن خيار المقاومة جراء الانقسام والحصار معطل، ويراكم قواه من داخل السجن والانقسام والخلاف؛ إذ إن تبني الفصائل التي تطرح خيار المقاومة، ما عدا الجهاد الإسلامي، وتحديدًا “حماس” لبرنامج الدولة الفلسطينية (وثيقة حماس السياسية 2017) وخيار المفاوضات (وثيقة الأسرى “وثيقة الوفاق الوطني” 2006)؛ جذره الأساسي والأهم الانقسام. وهو انقسام بين سلطتين متنازعتين تحت الاحتلال المباشر وغير المباشر، وترتبطان بقناعة أو بحكم الضرورة بعلاقات وتفاهمات مع الاحتلال، الذي وضع منذ أعوام سقف العلاقة مع الفلسطينيين بوصفه سقفًا أمنيًا اقتصاديًا، بما يناسب سعيه إلى ضم الضفة وفصلها عن قطاع غزة؛ لأن ارتباطهما معًا يقوي الفلسطينيين، ويزيد من فرص قيام دولة فلسطينية ترفضها الأغلبية السياسية الإسرائيلية في الحكم والمعارضة، ويرفضها اليمين الحاكم رفضًا قاطعًا.
“ثأر الأحرار” ما بين الإستراتيجية الواحدة وتعدد الإستراتيجيات
تأسيسًا على تقدم، هل جسدت معركة “ثأر الأحرار” إستراتيجية واحدة بين قوى المقاومة، أم أن خوض الجهاد الإسلامي للمعركة العسكرية وحده مع كتائب أبو علي مصطفى يعكس خلافًا في الإستراتيجية ونوعًا من تعدد الإستراتيجيات، مستمدًا من الخلاف السياسي، فالجهاد تحفّظ دائمًا عند توقيع الاتفاقات الوطنية على برنامج الدولة الفلسطينية، ورفض أن يشارك في السلطة في غزة بعد سيطرة “حماس” عليها؛ لأن هذا – كما يرى – يكرس الانقسام، ويحرف المقاومة عن هدفها الرئيسي، ويجعلها على الأقل محتارة بين أولوية الحفاظ على السلطة والمسؤوليات والمصالح والالتزامات المترتبة عليها، وبين أولوية المقاومة.
وفّر هذا الخلاف في الموقف والموقع الأرض لبروز ظاهرة خوض الجهاد لمعارك وحده، في تشرين الثاني 2019 وآب 2022 وأيار 2023، وهنا لا يقلل من خطورة ذلك كثيرًا أن المقاومة في معركة “ثأر الأحرار” وجدت صيغة لاحتواء الخلاف، عبر التوافق الوطني، وتوفير الغطاء السياسي عبر الغرفة المشتركة، ولكن تأييد المعركة وتوفير مساعدات لها والسماح بها شيء، والاشتراك فيها شيء آخر.
إن الإستراتيجية الواحدة لا تستبعد الغنى والتنوع في تطبيقها، وإنما تتطلبه شريطة الانضباط العام لها.
صيغة الغرفة المشتركة في “ثأر الأحرار” أفضل مما حدث في “وحدة الساحات”، ولكنها لا تخفي الاستفراد بالجهاد
إن صيغة الغرفة المشتركة في معركة “ثأر الأحرار” أفضل مما حدث في معركة وحدة الساحات، ولكنها لا تلغي الشرخ القائم، وليست ضمانة لعدم حدوث شقاق أكبر في المستقبل؛ لأنها لم تمنع الاستفراد في الجهاد، وتكبيده خسائر كبيرة، على الرغم من صموده ومقاومته الباسلة، واستمرار قصف الصواريخ حتى اللحظة الأخيرة، وعدم تمكين العدو من حسم المعركة لصالحه.
وإذا أضفنا إلى ما سبق أن الاختلاف بين توفير الغطاء وبين خوض المعركة يرجع إلى خلاف على توقيت المعركة، وعنوانها، ومدى قدرة قطاع غزة على تحمل عواقبها في حال مشاركة “حماس” فيها.
قطاع غزة لا يتحمل عبء معارك مستمرة في ظل اختلال موازين القوى
هناك رأي وجيه يقول إن قطاع غزة لا يستطيع أن يتحمل عبء معركة في ظل الاختلال في ميزان القوى كل عام، وعند كل مسيرة كراهية، وكل اقتحام للأقصى، وكل شهيد أو أسر قائد، بل إن المعارك تخاض من أجل عناوين وطنية كبيرة، مثل: الإقدام على تغيير مكانة الأقصى بشكل نوعي، واستكمال تهويد القدس والضم والتهجير والأسرى، والدفاع عند شن عدوان على القطاع. كما تخاض المعارك في الوقت المناسب للمقاومة، لا بالتوقيت الذي يحدده الاحتلال، بما لا يؤثر في الحراك الجماهيري والمقاومة في الضفة، وبما لا يساعد الحكومة الإسرائيلية على تصدير أزمة إسرائيل العميقة إلى الخارج عبر شن عدوان على الفلسطينيين.
كما يجب تذكر أن ميزان القوى مختل، ولا يوجد توازن ردع، مع أهمية ما حققته المقاومة من ردع، ويمكن عند وضع الإستراتيجية كذلك أخذ التطورات الإقليمية والدولية بالحسبان، فالعالم والإقليم يتغيران. ويجب دراسة ما هو الأنسب: تصعيد الصراع، أم تخفيف وتيرته؛ حتى لا تكون التحولات والتغييرات الحالية على حساب الفلسطينيين، بل توظف لصالحهم؟
طبعًا، هناك خشية كبيرة من أن استمرار الانقسام مع التفاهمات ما بين سلطة الأمر الواقع والاحتلال، عبر الوسطاء، يغذي ويصب بوعي أو من دون وعي في مشروع قيام كيان في غزة بدلًا من الدولة الفلسطينية، وتحويل الانقسام إلى انفصال، خصوصًا أن هدف نتنياهو واليمين الذي يمثله إدامة الانقسام لمنع إقامة دولة فلسطينية. أما اليمين الديني فلا يزال يفكر في حل السلطة في الضفة، وضم أجزاء منها إلى إسرائيل، على طريق ضمها كلها قانونيًا؛ لأن الضم الزاحف مستمر، وتهجير قسم كبير من سكانها، ويفكر بإنهاء سلطة “حماس” في القطاع، وإعادة احتلاله، وتهجير قسم من سكانه.
إنجاز الوحدة هو الحل
إن هذه المخططات المعادية ليست قدرًا، ويمكن إحباطها، ولكن هناك مستلزمات لا بد من توفيرها، أهمها: إعادة تعريف وإحياء المشروع الوطني، الذي يشمل كل فلسطين وكل الفلسطينيين، وليس مشاريع محلية وفئوية تتغطى بالحديث عن المشروع الوطني، والتحدي الأكبر للجميع والاختبار الحقيقي هو إنجاز الوحدة الوطنية، على أساس رؤية وبرنامج وإستراتيجيات وانتخابات ومؤسسة وطنية واحدة، وعدم انتظار استجابة المجموعة المتحكمة، من خلال الشروع في لقاء وطني بوصفه نوعًا من الجبهة الوطنية، التي من أهم وأول أهدافها استعادة الوحدة التي تتجسد أولًا بمن يوافق عليها، وتكبر رويدًا رويدًا لتضم مختلف الألوان.
ولا يخفى على المتابعين أن المبادرات التي طرحت لتوحيد قوى المعارضة فشلت، حتى الآن على الأقل؛ نتيجة: أولًا، خلافات حول السلطة وكيفية التعامل مع الانقسام والبرنامج، والخشية من أن يكون أي إطار جديد بديلًا من المنظمة. وثانيًا، خشية من الانتقال من هيمنة “فتح” إلى هيمنة “حماس”. وثالثًا، نتيجة تأثيرات متعارضة للأطراف والدول المؤثرة، وخصوصًا الداعمة لفصائل المقاومة.
لذا، فإن مفتاح نجاح الجهود لتوحيد المعارضة أن تقدم “حماس” رؤية وتجسد ممارسة تشاركية وديمقراطية، خصوصًا عبر السلطة التي تقودها، والاستعداد للتخلي عنها مقابل شراكة حقيقية كاملة؛ لأنها لم تمثل النموذج المطلوب ولا الحكم الرشيد.