ستّة وخمسون عاماً مرّت على حرب حزيران العام 1967، ولا يزال البعض يتحدث عن نكسة، بالرغم من نتائجها التي ترقى إلى مستوى نكبة كبرى، نكبة أخرى تضاعف ما تسبّبت به النكبة الأولى التي وقعت العام 1948.
كان الرئيس والزعيم الراحل جمال عبد الناصر هو من أطلق عليها هذه التسمية، وكأنّه يريد أن يقول إنها ليست نهاية المطاف، وإنّ مصر والعرب سيتابعون تحقيق المشروع التحرّري لما وقع بحق الأمّة العربية.
إذاً، فالتسمية كانت مرتبطة بمشروع تحرّري حمل لواءه زعيم الأمّة العربية من دون منازع حتى وفاته، فهو الذي خبر ما قامت به العصابات الصهيونية في فلسطين، وهو الذي يعلم يقيناً الأهداف التي تقف خلف المشروع الصهيوني الاستعماري.
لم يكن لزعيم مثل عبد الناصر أن ينسى المذابح التي تعرّض لها الفلسطينيون والشهداء الذين سقطوا من الجيش المصري خلال حرب 1948، ولا أن ينسى العدوان الثلاثي الغاشم الذي قامت به بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر العام 1956.
الصانع والمصنوع، عادوا بعد ثمانية أعوام من النكبة الأولى لكي يتابعوا مشروعهم الاستعماري بإسقاط المشروع القومي العربي التحرّري الذي رفع لواءه الزعيم عبد الناصر.
كانت مرحلة ما بعد نكبة العام 1967، قد بدأت بـ »لاءات قمّة الخرطوم» الثلاث: لا للتفاوض، لا للصلح، لا للاعتراف بإسرائيل، ثم اعتمد الرئيس عبد الناصر أسلوب «حرب الاستنزاف» التي استمرت حتى بعد وفاته.
تستلهم «حرب الاستنزاف»، محتوى استراتيجية الثورة الفلسطينية التي رفعت شعار التحرير عَبر أسلوب «حرب التحرير الشعبية» التي استلهمتها بدورها من تجارب الشعوب التي خاضت حروباً تحرّرية من الاستعمار.
لقد شكّلت الثورة الفلسطينية منذ انطلاقتها العام 1965، مرحلة جديدة لتحقيق هدف التحرير الكامل لكلّ أرض فلسطين التاريخية، ووضعت الشعب الفلسطيني في مقدمة الشعوب العربية وحركتها التحرّرية، فضلاً عن أنها عبّرت عن فشل الجيوش النظامية في مواجهة احتلال استعماري مدعوم من قبل قوى استعمارية عالمية.
لقد تزعزعت ثقة الجماهير العربية بقدرة الجيوش النظامية على مواجهة المشروع الاستعماري الصهيوني، ولكن الثورة الفلسطينية لم تسقط دور تلك الجيوش من حساباتها، حيث كانت ترى لها دوراً رديفاً لدور الثوّار، لكنها لم تدرك، أنّ مجريات الأحداث اللاحقة ستبين فقد دور الجيوش النظامية.
خلال النكبة الثانية الكبرى، احتلّت إسرائيل كامل الأرض الفلسطينية ومساحة تزيد على أربعة أضعاف مساحة فلسطين التاريخية، لكن هذه لم تكن القضية الوحيدة التي تفسر النتائج الكارثية التي ترتّبت على حرب حزيران 1967.
كانت الضربة الأولى للمشروع التحرّري الفلسطيني والعربي قد وقعت إثر الصدام بين مقاتلي الثورة والجيش والنظام الأردني العام 1970، وانتهى إلى خروج الثورة قيادات وقواعد من الأردن، وفقدها ساحة المواجهة الأطول، والأهمّ للاحتلال الصهيوني، ومع خروج المقاتلين من الأردن، فقدت الثورة الفلسطينية عمقاً شعبياً واسعاً حيث يتواجد في الأردن أكثر من مليوني فلسطيني آنذاك، ووضعت الثورة في حالة تناقض وصراع مع النظام الأردني.
ثم جاء الانهيار الكبير والاستراتيجي إزاء دور الجيوش النظامية «حرب أكتوبر ــ تشرين» البطولية العام 1973، التي أبلى فيها الجيش المصري بلاءً تُرفع له القبعة، كانت الضربة القاضية التي أقصت نهائياً دور الجيوش العربية.
تقدم الجيش المصري، وأصبح يهدد الكيان الصهيوني، بعد أن حقّق المفاجأة، وكان من المتوقع لو أنّ الحرب استمرت، أن يحرز المزيد من التقدم، بموازاة تقدم تحرزه الجيوش السورية والعراقية، لكن الحرب توقفت لأنها كان يجب أن تتوقف عند الحدود التي بلغتها، لأنّ الهدف كان تحريك العملية السياسية، من خلال إنجازٍ ميداني كبير.
صحيح أنّ ثمة تدخّلا أميركيا واستعمارياً أوروبياً لصالح إسرائيل، وأنّ الحرب لو استمرت لفترةٍ أطول وبلغت حدّ تهديد وجود دولة الاحتلال لكان التدخّل الأميركي والاستعماري مباشراً وقوياً، ولكن هذه ليست كلّ الحقيقة في زمن النظام الدولي ثنائي القطبية.
دخلت مصر بعد سنوات من المفاوضات الماراثونية التي قادها الداهية هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركية الأسبق، إلى أن تمّ توقيع «اتفاقية كامب ديفيد» العام 1979، وأدّت إلى استعادة سيناء بشروط وخروج مصر الكبيرة من دائرة الصراع المباشر أو هكذا بدا الأمر.
خلال هذه الفترة منذ حرب «أكتوبر ــ تشرين» حتى اللحظة غاب دور الجيوش العربية عن مسرح الصراع المباشر مع الاحتلال، بالرغم من استمرار العمل لإعادة بناء وتقوية وتجهيز الجيش المصري، على خلفية عدم الثقة بالاحتلال وأهدافه التوسّعية، ومخطّطاته التي ظلّت تستهدف مصر الكبيرة وتهدّد أمنها الإستراتيجي عَبر وسائل أخرى.
حين أقرّت القمة العربية في الرباط، حصرية منظمة التحرير الفلسطينية للشعب الفلسطيني، وقد كان ذلك إنجازاً، لكن النوايا على ما يبدو لم تكن سليمة فلكّأن العرب يريدون التخلّي عن القضية الفلسطينية وإلقاء أحمالها على الفلسطينيين ولعلّ الوقائع اللاحقة جاءت لتؤكّد ذلك.
وقعت «الحرب الأهلية» في لبنان، وكانت الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية هدفاً. ثم وقع الاجتياح الإسرائيلي للبنان 1982، وما نجم عنه من مذابح ومن خروج لمقاتلي المنظمة، دون أن يحرّك العرب ساكناً، حتى حين احتلّت إسرائيل العاصمة بيروت، ظلّ الموقف العربي متفرّجاً رغم كثرة التصريحات فارغة المضمون.
هكذا يمكن القول، إنّ الأنظمة التي دخلت جيوشها فلسطين وقيل إنها خاضت الحرب ضد العصابات الصهيونية، تتحمّل المسؤولية عن كلّ ما وصل إليه الصراع في المنطقة، إلى الوضع الحالي الذي يشهد على التراجع الكبير في مكانة القضية الفلسطينية، وتراجع الدعم العربي، المادي والسياسي للشعب الفلسطيني، وانحياز العرب لمصالحهم القطرية.
لا يعني ذلك تبرئة الفلسطينيين وفصائلهم من المسؤولية، إزاء ما وقع خلال النكبتين الأولى والثانية، وما عاناه الشعب الفلسطيني جرّاء الخيارات والسياسات والمراهنات السابقة.
الفلسطيني سيظلّ يفخر بانتمائه للأمّة العربية وينتظر صحوتها الأكيدة.