في ذكرى القائد “أبو عمار”.. من حصار إلى حصار
بقلم : توفيق العيسى
انتفاضة الساعة التانية عشر، أو انتفاضة منتصف الليل، حسب تعبير السياسي والكاتب أحمد عبد الرحمن، في كتابه “الرئيس.. سنوات مع ياسر عرفات”.
حين تقرأ أحداثا تاريخية كنت فيها وعشتها، وتفاعلت معها، تجد صورتك في كل سطر من الكتاب. أول ما يخطر في البال حينها صورتك في الحدث، وأنت تشاهدها ستتذكر قصيدة صلاح جاهين بصوت الفنانة الراحلة سعاد حسني:
“وقف الشريط في وضع ثابت،
دلوقتي نقدر نفحص المنظر
مافيش ولا تفصيلة غابت
كل شيء بيقول ويعبر”.
تلك الليلة كانت مشاعر الإحباط تسللت إلى نفوسنا, بعد شهور من اجتياح شارون للضفة الغربية، وحصار المقاطعة، كنا نرقب “صاحب اللحية في المقاطعة” ببدلته العسكرية مهترئة الكم، يرتدي كوفية على شكل خارطة فلسطين التاريخية، مناوراً بين الحق الفلسطيني “الطبيعي والتاريخي والقانوني”، حسب تعبيره في خطاب إعلان وثيقة الاستقلال في الجزائر، وبين الحل والحق الأدنى الممكن في الدولة الفلسطينية.
سيسير الشريط قبل أن يقف في وضع ثابت، كنا ندرك ما يفعله شارون في حينه، من حرب الرموز وإسقاطها، كانت رمزية اعتقال واستسلام عرفات، أكثر ما يهم شارون من قتله، خروج عرفات انتصار لشارون، وموته “استشاده” انتصار للفلسطينيين. ومع ارتفاع سقف هذا الجملة/ الشعار، إلا أن استشهاده لم يكن ليمر بهذه الروح الشعاراتية، مفرغة من احتمالات الأمر الواقع.
وعليه حينها وقع معنى بيت شعر عنترة العبسي حين قال:
“ومدجج كره الكماة نزاله
لا ممعن هربا ولا مستسلم”.
الساعة العاشرة، يقف الشريط في مكة، عند حصار الحَجّاج لعبدالله بن الزبير، حمل الحَجّاج سيفه بيمينه موغلاً في عداوته لابن الزبير، الخليفة في مكة، وفي شماله كتاب أمان الخليفة في الشام عبدالملك بن مروان.
انتصار الحَجّاج كان باجتياح مكة، وانتصار عبدالملك كان في استسلام الزبير، وغاية الزبير الاعتصام في الحرم، لدحر كليهما بما بقي معه من جند، أثناء كل ذلك ظهرت غايات صغيرة وإن كانت برمزيتها مهمة إلا أنها تبقى صغيرة أمام ما يحدث، فخالد بن يزيد بن معاوية والذي سبق والده اليزيد، عبدالملك في حصار مكة، يسعى جاهداً لخطبة أخت الزبير، الحَجّاج وعبد الملك تنافسا على من يسبق الآخر الى سكينة بنت الحسين في المدينة، وقبل ذلك بشهور قتلا زوجها في الكوفة مصعب بن الزبير، الغاية هنا لم تبرر الوسيلة، من قال أن الطغاة دائماً يبررون الغاية بالوسيلة؟! لهم ألف وسيلة لغاية كبرى وغايات صغرى.
هذا المشهد سيذكرني بمشهد من مسرحية الحسين ثائراً.. الحسين شهيداً للكاتب والشاعر المصري عبدالرحمن الشرقاوي، في مجادلة بين زينب والحر الرياحي أثناء حصار كربلاء، حيث قال على لسان زينب: وماذا ستقولون غدا لرسول الله؟! هل ستقولون قتلنا آل بيتك صلى الله عليك وسلم؟”.
لا أدري بالضبط كيف سمعنا الخبر، لكننا كنا نتابع الأخبار قبل الثانية عشر، على الأغلب كان نقل لتصريح لشارون عن نسف المقاطعة على عرفات، لكنني أذكر حينها كم الاتصالات التي تلقيتها وغيري من أصدقائي الذين كنا نجتمع منذ الحصار الأول في بيت صديقنا المخرج المسرحي فتحي عبدالرحمن، كانت المكالمات كلها كمن يستفسر عن خبر معروف مقصده، ومن جهة أخرى سؤال غير مباشر معناه “ما العمل؟!” خبر نسف المقاطعة وقتل عرفات لم يمر هذه المرة كخبر نفسي المقصد أو تهديد، في تلك اللحظة أحسسنا أن غليان الفترة السابقة يفور الآن، من خرج أولاً ؟! من حشد؟! من الذي غامر وعلق الجرس؟! لا أحد، كان الكل، روح جمعية هبت فكانت البوصلة بلا تنظير ولا مسطرة للثورة، وهنا لا أسقط التنظير. لكن أضعه في مكانه، لا أمام الشعب ولا خلفه.
سبق حصار الزبير في مكة حصار عثمان بن عفان في المدينة. كثيرة هي الروايات التي أدانت عثمان، وجعلته سبباً في الخلاف وبالتالي غيابه حل لها. لعل أبرزها ما نقل عنه من قوله: لا أخلع قميصاً ألبسني إياه الله” فرأى كثيرون أن قتل عفان سيكون حلاً، ربما لذلك لم يخرج إلا نفر قليل للدفاع عنه، كانوا يريدون الحل، لكن هذا الحل كان مؤقتا لتندلع الفتنة حينها باسم “قميص عثمان”، وقبلاً رفع قميص الرسول فيما يشبه المظاهرة وقيل: “اقتلوا نعثلا فقد كفر نعثلا”، تحريضاً على قتل عثمان.
الروح الجمعية للشعب تعرف تماماً أن الرجال حجوم والأحداث مقادير، فالحلول الصغرى لن تكون بنسف المقاطعة، ولا الحلول الكبرى بنسف الكيانية الفلسطينية الحديثة، حتى وأن اجتهد كثيرون بالتنظير لها، باعتبارها حلاً، فهي سعي إلى مغامرة في الفراغ.
من علق الجرس؟! لا أحد، كان الجرس يقرع في أذني كل منا، غليان القهوة كان كغليان محدّثي على الهاتف، حرارة الغليان امتدت إلى مقبض الركوة، وكنت في وضع لا أستطيع معه تثبيت الهاتف على أذني ولا الإمساك بقبضة الركوة من حرارتها بسهولة، صوت طرقات في الشارع المؤدي إلى المقاطعة، صراخ محدّثي يتعالى في عصبية، صوت مذيع قناة الأخبار وهو يقرأ تصريحاً عن نسف المقاطعة، صوت أصدقائي وهم يناقشون في عصبية ظاهرة، تعالت الطرقات. القهوة تغلي، صاحَبَ الطَرَقات صوت أبواب تفتح وتغلق بقوة في طوابق العمارة، لغط في الشارع صوته بات مسموعاً، صوت مذيع الأخبار يتلو خبراً عاجلاً عن بدء مسيرات صغيرة تصل إلى المقاطعة، وصوت إطلاق نيران على المتظاهرين من الجيش الإسرائيلي. فارت القهوة، وحرارة المقبض حرقت يدي فانكبت.
في الشارع كان المحتشدون قد ملؤوا شارع الإرسال وتوالى المسير نحو المقاطعة بطَرَقات البعض على أواني المطبخ، وتعالى هتاف “حاصر حصارك يا عرفات” المقتبس من قصيدة الشاعر الراحل محمود درويش. البعض وضع حجارة في الشارع لمنع دبابات وسيارات الاحتلال من مغادرة رام الله قبل أن تنهال عليها الحجارة، وهناك على باب المقاطعة ومحيطها كانت حجارة أخرى تقرع جدران الدبابات وتجبر الجنود على الاختباء. كانت فوهات المدافع قبلاً مشرعة في وجه المقاطعة بعنجهية، لكنها الآن كسرت وحيدت، أمام الهتاف، محيط المقاطعة تحول إلى ساحة حرب أملمها ومن بين البيوت المجاورة لها، التي أجبر الاحتلال سكانها على إخلائها تمهيداً لنسف المقاطعة، أعتقد أن ما كتبه الأستاذ أحمد عبدالرحمن في كتابه من تصوير مجازي لحالة شارون حينها كان صائباً حين قال في كتابه بما معناه قد يرجو شارون الآن ألا يطلع الصبح وجيشه في رام الله أمام المقاطعة.
من الذي غامر وعلق الجرس؟! لا أحد، كان الكل، روح جمعية هبت فكانت البوصلة بلا تنظير ولا مسطرة للثورة، وهنا لا أسقط التنظير. لكن أضعه في مكانه، لا أمام الشعب ولا خلفه.