بـكـــرة وبـعـــده
![بـكـــرة وبـعـــده](https://i0.wp.com/www.almwatin.com/wp-content/uploads/2025/02/27e9a2052442d369a353580e2957a910-1.jpeg?resize=425%2C300&ssl=1)
المواطن – غزة
الكاتب: تحسين يقين
«أنا من هناك ولي ذكريات»
محمود درويش
بـكـــرة وبـعـــده دع عنك ما يقوله العدو والحليف الأكثر عداوة بما يزود الغازي من سلاح دمار شامل، فلا يهجر عصفور عشه، فكيف بإنسان له ذكريات يا محمود درويش.
فقط عبارة واحدة لا أكثر: لا نمنح بسذاجة تصريح دونالد ترامب كثيرَ أهمية ولا قليل، فلا ضرورة لانفعال القادة هنا ولا الساسة العرب، ولا حتى الإعلام، لأننا هكذا منحنا بردود فعلنا كلام الهراء قيمة؛ فليس الملك وراء البحار إلهاً ولا رباً. أما ما ينفعنا فهو إعادة الاعتبار لنا، فلسطينيين وعرباً، نقطة ضع القلم بـكـــرة وبـعـــده
ونحن ننظر الى الأمام، يمكننا النظر حولنا، وأحيانا الى الخلف بما لا يعيق سيرنا.
جدليتان لعلنا نتجاوزهما، إن تجاوزنا جدلية ثالثة تتبعهما:
الأولى تأثير الفكر والمصالح:
فهناك من يرى أن المحرك هو الفكر، وهناك من يرى ان المحرك هو المصلحة، فلماذا لا نفكر بأن كليهما مؤثران وننتهي من هذا الجدل؛ فوجود الاستعمار المادي مرتبط بالمصالح، إلا أنه خلال ذك، اعتمد على توظيف الفكر والثقافة، والصهيونية الاستعمارية هي خير مثال على ذلك. وتشبهها كل أيديولوجية متحالفة بالقوة الباحثة عن المزيد منها قديماً وحديثاً. وتزداد التعقيدات حين يتم خداع الشعوب بتخويفها من الآخر، لتبرير نفيها له وصولا للنفي الدمويّ. في هذا السياق، يمكن تفسير سياسة الولايات المتحدة وأوروبا، في الانحياز للاحتلال بمبرر المصالح، والأفكار التي يتم توظيفها، الصهيونية المسيحية مثالاً.
بالنسبة لنا، ما الفرق إن انطلق الاحتلال وحلفاؤه من هذا أو ذاك: المصلحة أم الأيديولوجيا؟ لنتذكر تصفيق الكونغرس سيئ الذكر لخطاب نتنياهو، هل كان ثمة فرق بين الأمرين؟
بسبب المصالح مثلاً تقمع الولايات المتحدة، وأوروبا حرية التعبير بمبرر الحفاظ على مصالحهما، كأن العرب في مجمل النظم مهددون لهما!
الجدلية الثانية، وهي جدلية اللوم والدفاع:
ونحن ننظر الى الأمام، يمكننا النظر حولنا، وأحيانا الى الخلف بما لا يعيق سيرنا.
في كثير من مفاصل حياتنا السياسية بعد عام 1993، كان دوما يطل السؤال عن جدوى المواقف والأفعال في سياق تقييم ما كان، فهناك مثلا من يرجع للماضي ليجد مبرراً لصوابه، وهناك من يرجع له ليجد مبرراً للرفض، بمعنى أن الرجوع هو لتأكيد رأي مطلق يتعلق بسلوك سياسي، رآه الطرف الأول بالفعل الحكيم تماماً، بينما رآه المعارض بغير ذلك.
كان من المأمول أن يكون ذلك، باتجاه المستقبل دون البحث عما يستحق المدح والفخر أو الذم والهجاء. لكن هذا يحصل قليلاً.
ربما أكتب شيئاً عن سؤال تلقيته، هل اتفاق أوسلو قرّبنا من الدولة أو أبعدنا عنها؟
لم تقف الحرب بعد، لذلك، فإننا نجدُ أنفسنا مهتمين الآن بالقادم، من أجل ترسيخ بقائنا كشعب، لسبب بسيط؛ أن الشعب والأرض هما الدولة، لا المكاتب.
نعود للجدلية الأولى: عربياً، يتكرر أيضاً الحديث عن مصالحنا العربية، لكن كيف؟
صحيح أن بيننا ما هو مشترك، وهو ما تعلمناه أطفالاً، لكن هذا أبداً لا يتناقض عن علاقاتنا العربية، التي تجمعها مصالح مشتركة. كذلك فإننا ننظر لمنطلقات مصالح الدول العربية مع العالم، من حيث تحقق مصالح حقيقية لكل قطر. لكن أن يكون حديث الأقطار عن مصالحها مثلاً مع الدول الكبرى قادماً من الخوف، فمعنى ذلك لا حققنا ما هو عروبي ولا حققنا المصالح المرجوّة والمتوقعة.
وصلنا إذن الجدلية الثالثة: الخوف، والذي يعني في حالة منه، تنطبق علينا، الموت خوفاً، وليس المقصود بالموت الموت الفيزيقي، بل موت الإرادة والحياة، حيث تصبح هكذا حياة عبارة عن موت أشد موتاً من الموت العادي.
في الجدلية الأولى الخاصة بفلسطين، وهي إعادة تقييم لما كان من تسوية كذلك ما يكون من حل يعتمد طريقاً آخر.
لو فكرنا بعجلتَي الدراجة الهوائية، سنرى أن الأولى وهي تأثير الفكر والمصالح الفلسطينية الوطنية العليا والحزبية متقاطعة فعلاً، بل أن الخلاص الفردي الشخصي الذاتي جداً لن يتحقق فعلاً إلا بالخلاص العام.
وهكذا إن فكرنا بشعور عميق سنجد أنفسنا متخلصين من الجدلية الثانية، وهي جدلية اللوم والدفاع، باتجاه وجود الجماعة المتماسكة تحت الاحتلال وتقوية بقائها. بمعنى أن وجودنا معاً أفضل من تعدديات استراتيجية دفعت جزءاً الى التسوية بديناميتها وجزءاً آخر الى الاشتباك المادي-العسكري، بما فيه من آليات ونتائج، كانت أكثر أثراً من نتائج التسوية، بمعنى أنها كانت أكثر ألماً تعلق بحياة الشعب وممتلكاته.
«الخايف منه ….» مثل شعبي جريء، فيه إيحاءات ..لكن السؤال اليوم في حالتنا الفلسطينية:
– هل للخوف مجال الآن؟
– ………………..
الحق أظنني أقوله: ننظر حولنا الآن، ونرى من هو الخائف فعلاً؟ من الخائف عسكرياً واقتصادياً وثقافياً؟ لعل كل من حولنا خائفون حتى «مستر ترامب مدير العالم». فما دمنا لسنا في حالة الخوف، فإننا نستطيع القول نعم ولا. ربما نحن الوحيدون الذين ما زلنا نقولها شعباً وقيادة.
ما زال شعبنا يعرف طريقه: البقاء، والعودة ولو بعد حين، وما لا هو لنا، لذلك لا يسأل الناس «وين رايحين»، بعكس النخب التي قد تعرف بأن أكثر خطر يهددنا لا ما كان بما فيه من آلام، هو التساؤل الغريب» وين رايحين؟
من شاهد فيلم «الأرض» لعبد الرحمن شرقاوي، من إخراج يوسف شاهين، سيظل متذكراً الفنان الراحل محمود المليجي، حين يجره أزلام الإقطاع، وهو ممسك بغرسات القطن، وحين تقع من بين يديه يثبّت أصابع كفيه في الأرض كأنه يحرثها.
ما استفز ذلك الضابط هو بقاء المزارع محمد أبو سويلم في الأرض لا حمله للسلاح. كان أبو سويلم يعرف مكانه وطريقه وحقه في مياه نهر النيل!
عاشت الشعوب بإرادتها، حتى وهي لاجئة، كشعبنا؛ فعلى مدار سنوات الاستعمار التي بدأت في بدايات القرن التاسع عشر وأمتنا العربية باقية وشعبنا الفلسطيني العظيم فعلاً كما يتغنى الشعراء. هل كانت الحروب الأولى سهلة؟ هل كانت الهزائم سهلة؟ وقعت البلاد تحت الاحتلال لكن لم يسقط شعبنا.
لقد تم السعي لبرمجة شعبنا، لكن لم تنجح البرمجة لا أمس ولا اليوم ولا غداً، فلم يكن همّ شعبنا الطعام والشراب.
صار شعبنا يعرف أن الطريق هي عدم السير في الاتجاهات، بل البقاء. فلا نحو البحر سيكون خلاصاً ولا نحو البرّ. هنا نعيش أحراراً، على ما نحن فيه من عوز، لعل ذلك أفضل كثيراً من توفر المواد، في ظل عوزنا الى الحرية؛ فماذا يعني ماء وطعام وبيت مع غياب الحرية!
اليوم وغداً نحن باقون هنا، أما ما بعد الغد، فهو غدنا لا مفرّ من بلوغه.
فقط لنقرأ محمود درويش:
أَنَا مِنْ هُنَاكَ. وَلِي ذِكْريَاتٌ. وُلِدْتُ كَمَا تُولَدُ النَّاسُ. لِي وَالِدَةٌ
وبيتٌ كثيرُ النَّوافِذِ. لِي إِخْوَةٌ. أَصْدِقَاءُ. وَسِجْنٌ بِنَافِذَةٍ بَارِدَهْ.
وَلِي مَوْجَةٌ خَطَفتْهَا النَّوارِسُ. لِي مَشْهَدِي الخَاصُّ. لِي عُشْبَةٌ زَائِدَة.. وَلِي قَمَرٌ فِي أقَاصِي الكَلاَم، وَرِزْقُ الطُّيُورِ، وَزَيْتُونَةٌ خَالِدَة.
مَرَرْتُ عَلَى الأَرْضِ قَبْلَ مُرُور السُّيُوفِ عَلَى جَسَدٍ حَوَّلُوه إِلَى مَائِدَة.
أَنَا مِنْ هُنَاكَ. أُعِيدُ السَّمَاءَ إِلَى أُمِّهَا حِينَ تَبْكي السَّمَاءُ عَلَى أمِّهَا،
وَأَبْكِيِ لِتَعْرفَنِي غَيمَةٌ عَائِدَهْ.
تَعَلّمْتُ كُلَّ كَلامٍ يَلِيقُ بمَحكَمَةِ الدِّم كَيْ أَكْسِرَ القَاعِدة.
تَعَلّمتُ كُلَّ الكَلاَمِ، وَفَكَّكْتُهُ كَيْ أُرَكِّبَ مُفْرَدَةً وَاحِدَة..
هِيَ: الوَطَنُ….