الهيمنة التكنولوجيّة… الرقائق الإلكترونيّة وتأثيرها العالميّ على الدول
وكالات- المواطن
شهد العالم تحوّلًا ملحوظًا في العقود الأخيرة، مدفوعًا بالتقدّم السريع للتكنولوجيا، في قلب هذه الثورة تكمن الرقاقة الإلكترونيّة، وهي مكوّن صغير ولكنّه قويّ وفعّال، حيث أعاد تشكيل الصناعات والاقتصادات وحتّى ديناميكيّات القوّة العالميّة.
والرقائق الإلكترونيّة، المعروفة أيضًا باسم الدوائر المتكاملة أو الرقائق الدقيقة، هي اللبنات الأساسيّة للتكنولوجيا الحديثة، وهذه القطع الصغيرة من السيليكون محفورة بأنماط معقّدة من الترانزستورات والمسارات الموصّلة، ممّا يمكّنها من معالجة المعلومات وتخزينها ونقلها بسرعة وكفاءة عالية، وتمّ وضع الأساس لتطوير الرقائق الإلكترونيّة من قبل الحائزين على جائزة نوبل جاك كيلبي وروبرت نويس في أواخر الخمسينيّات من القرن الماضي، ممّا أدّى إلى أوّل دائرة متكاملة متاحة تجاريًّا في أوائل الستّينيّات، ومنذ ذلك الحين، تطوّرت التكنولوجيا بوتيرة مذهلة، وفقًا لقانون مور، الّذي يتوقّع أن يتضاعف عدد الترانزستورات على رقاقة كلّ عامين تقريبًا.
ولم يترك انتشار الرقائق الإلكترونيّة أيّ صناعة كما هي، من الاتّصالات والرعاية الصحّيّة إلى السيّارات والطيران، حيث أحدثت هذه الرقائق ثورة في طريقة تصميم المنتجات وتصنيعها وتشغيلها، على سبيل المثال، شهد قطاع السيّارات تحوّلًا هائلًا مع ظهور السيّارات الكهربائيّة وذاتيّة القيادة، وكلاهما يعتمد بشكل كبير على الرقائق الدقيقة المتقدّمة لمعالجة البيانات من أجهزة الاستشعار وضمان الأداء الأمثل للمركبة، وفي مجال الرعاية الصحّيّة، أتاحت الرقائق الإلكترونيّة تطوير أجهزة طبّيّة أصغر حجمًا وأكثر دقّة وتقنيّات يمكن ارتداؤها تراقب العلامات الحيويّة وتقدّم علاجات مخصّصة.
وسلّطت دراسة أجرتها مجموعة بوسطن الاستشاريّة في الضوء على أنّ البلدان الّتي تتمتّع بقدرات قويّة في تصنيع الرقائق تميل إلى أن تكون في طليعة الابتكار في العديد من الصناعات، حيث تتمتّع هذه الدول بميزة تنافسيّة كبيرة بسبب قدرتها على التحكّم والتأثير على إنتاج وتوزيع التقنيّات الهامّة، وهذا يؤكّد كيف أنّ الرقائق الإلكترونيّة لم تغيّر الصناعات فحسب، بل لعبت أيضًا دورًا حاسمًا في تشكيل ديناميكيّات القوّة العالميّة.
وأدّى صعود الرقائق الإلكترونيّة كمحور أساسيّ للحضارة الحديثة إلى إعادة تقييم ديناميكيّات القوّة الجيوسياسيّة، وتاريخيًّا، كانت القوّة العسكريّة والبراعة الاقتصاديّة هي العوامل الأساسيّة الّتي تحدّد التأثير العالميّ، ومع ذلك، في العصر الرقميّ، أصبحت السيطرة على الابتكارات التكنولوجيّة، وخاصّة الرقائق الإلكترونيّة، عاملًا حاسمًا في تحديد النفوذ الجيوسياسيّ لأيّ بلد.
إنّ الصعود الصاروخيّ الّذي حقّقته الصين في مجال تصنيع الرقائق الإلكترونيّة يعدّ مثالًا صارخًا على كيف يمكن لهذه التكنولوجيا أن تعيد تشكيل الطبيعيّة الجيوسياسيّة للدول، حيث استثمرت الحكومة الصينيّة بشكل كبير في تطوير صناعة الرقائق المحلّيّة، بهدف تقليل اعتمادها على المورّدين الأجانب، وأدّت هذه المبادرة، المدعومة بتمويل حكوميّ كبير، إلى إنشاء مرافق تصنيع ومراكز بحث متطوّرة.
وكشف تقرير صادر عن رابطة صناعة أشباه الموصّلات (SIA) أنّ الصين تمثّل جزءًا كبيرًا من استهلاك أشباه الموصّلات العالميّ، حيث دفع هذا الطلب المتزايد الأمّة إلى السعي لتحقيق الاكتفاء الذاتيّ في إنتاج الرقائق، ممّا أثار مخاوف في دول مثل الولايات المتّحدة واليابان، كما دفع الخوف من سيطرة الصين على سلاسل التوريد التكنولوجيّة الهامّة هذه الدول إلى إعادة النظر في سياساتها التجاريّة وإجراءات الأمن القوميّ.
وأثارت شبكة الترابط التكنولوجيّ المعقّدة للاقتصاد العالميّ مخاوف بشأن التعرّض للاضطرابات في سلسلة التوريد، وخير مثال على ذلك هو النقص في الرقائق الإلكترونيّة الّتي تردّد صداها عبر الصناعات في عامي 2020 و 2021، ممّا أثّر على قطاعات متنوّعة مثل الإلكترونيّات الاستهلاكيّة والسيّارات والمعدّات الطبّيّة، حيث كشفت هذه الأزمة عن مخاطر الاعتماد على عدد قليل من الشركات المصنّعة المركّزة في بلدان معيّنة.
وأكّدت دراسة أجراها مركز الدراسات الاستراتيجيّة والدوليّة (CSIS) على أهمّيّة تنويع سلاسل التوريد للتخفيف من تأثير الاضطرابات، وكانت البلدان الّتي لديها مجموعة متنوّعة من المورّدين ومرافق الإنتاج مجهّزة بشكل أفضل لمواجهة عاصفة نقص الرقائق، حيث يؤكّد هذا الموقف التوازن الدقيق بين الترابط التكنولوجيّ والاستقلاليّة الاستراتيجيّة الّتي يجب على الدول أن تتنقّل فيها في العصر الرقميّ
وأدّى دور الرقاقة الإلكترونيّة في التطبيقات العسكريّة والأمن السيبرانيّ إلى زيادة المخاوف بشأن الهيمنة التكنولوجيّة، حيث أدركت الدول المتقدّمة الدور الحاسم للرقائق الدقيقة في إستراتيجيّات الدفاع والهجوم، وأصبح الحفاظ على السيطرة على تصميم وتصنيع وتوزيع الرقائق أمرًا ضروريًّا لحماية السيادة.
وناقشت دراسة نشرت في مجلّة “ديفينس آند سيكيوريتي آنالايسس” الآثار المترتّبة على الاعتماد على المورّدين الأجانب للمكوّنات الإلكترونيّة الهامّة في الأنظمة العسكريّة، حيث يؤدّي هذا الاعتماد إلى ظهور نقاط ضعف، إذ يمكن تعطيل سلاسل التوريد أو التلاعب بها، ممّا قد يعرض وظائف أنظمة الدفاع للخطر وأمنها، وقد دفع هذا الإدراك البلدان إلى تعزيز صناعات الرقائق المحلّيّة لضمان سلامة ومرونة البنية التحتيّة للأمن القوميّ.